معزوزة*

30 نوفمبر 2015
لوحة للفنانة الفرنسية إيزي أوكوا (Getty)
+ الخط -
"...تلك السنة، هطلت الأمطار على نحو متقطّع خفيف، والنساء صرْن يمشين مسافة طويلة لكي يجلبن الماء من بركة بعيدة أو من بئر ماء على أطراف البرّيّة. يذهبن منذ الفجر في موكب واحد بالثياب السوداء التي تغطّي أجسادهن، فلا يبين منها سوى الوجوه والأيدي وأسفل السيقان، وبعض مساحات من الصدور التي تتراوح بين السمرة التي تسببّت فيها شمس البرية، والبياض الذي ينمّ عن راحة ما. يذهبن وفي أيديهنّ قِرَبٌ فارغة من جلود الماعز مشدودة من أطرافها بحبال، يملأنها بالماء ويحملنها على ظهورهنّ ويجعلن الحبال مثبّتة على جباههن، وتقبض أيديهنّ على الحبال مخافة سقوط القِرَب، ويعدن بها إلى مضارب العشيرة.

ولا يندر، أن يتعرّض للموكب الذاهب إلى الماء بعض الرعاة الذين لديهم أسرارهم، يتقاسمونها مع بعض بنات العشيرة. ويجري تبادل رسائل خافتة على شكل ابتسامات وهمسات، وبعض تلميحات لا تغيب مضامينها عمّن يستمعن إليها، يحفظنها في قلوبهن، ويحتفظن بها لعرضها أثناء الجلسات التي تجمع بنات العشيرة، للتداول في أمور الخطّاب ومواعيد قدومهم لطلب يد هذه أو تلك من البنات. غير أنّ للصورة جانبًا آخر، فحينما يدبّ الخلاف بين الأمّهات، فإنّهن يستخدمن ما تبوح به بناتهنّ من أسرار البنات الأخريات في المشاجرات التي تنشب بين النساء، ما يتسبّب في الحرج حينًا، وفي توسّع المشاجرات حينًا آخر لتشمل بعض الرجال، وتحتدم الأمور في العشيرة إلى أن يتصدّى عقلاؤها لحسم الخلافات.

ولم تتزوّج معزوزة. لم تظفر بزوج بعد انتهاء فترة حدادها على حرّان، الحداد الذي استمرّ سبع سنوات. صارت ترتدي ثيابًا مطرّزة أجمل تطريز، وتخرج مع النساء إلى البركة لتحضر الماء، وليراها رعاة الأغنام المنتشرون في الشعاب. كانت خلايا جسدها تتفتّح على نحو بهيج، وهي تستمع إلى كلام الغزل. تبتسم على نحو مكشوف لكي ينتبه إليها الرعاة، وتبدي تجاوبًا مع الكلام الذي يتطاير من هنا وهناك. ولم يطرق باب أهلها أحد من الخطّاب. توقّعت أن يأتوا على نحو غير مسبوق بعد انتهاء فترة حدادها. فلم يأت أحد، كما لو أنّهم أبرموا اتفاقًا في ما بينهم بألا يقتربوا منها. في السنة الأولى للحداد، وفي السنة الثانية، جاءها عدد من الخطّاب رفضتهم جميعًا، وفاء لحبيبها حرّان (لم تلتق به في الخلاء كما قيل. كانت تكتفي بأن تراه ويراها من مسافة ما، يتبادلان التحيّات وبعض كلمات دافئة).

في السنوات التالية، قلّ عدد الخطّاب، حتى تلاشوا تمامًا. ظلّت تكظم غيظها من هذا الصدود حتى انتهت فترة الحداد التي اختارتها بنفسها وحدّدتها لنفسها. اعتقدت أنّ ما وقع لجدّتها مهيوبة سوف يتكرّر معها، وسيأتيها الخطّاب وستكون أمامها فرصة سانحة لكي تختار من بينهم عريسًا يليق بها، وستكون تلك مكافأتها على وفائها لحبيبها الذي غاب. وحينما لم يأت أحد شعرت بالإهانة، وبدت مكسوفة أمام البنات. حاولت أن تتستّر على كسوفها بهذا السلوك المنفتح، وبتلك الرغبة في سماع كلام الرعاة، الذي يكاد يكون مكشوفًا فاضحًا إلى حدّ ما. في الليل، وهي مستلقية في فراشها، كانت تكابد الأرق. تُجري مقارنة بينها وبين جدّتها مهيوبة، التي أعلنت الحداد على زوجها قتيل الماء سبع سنوات، جاءها أثناءها ما يقارب عشرين خطيبًا رفضتهم جميعًا. وحالما انتهت فترة حدادها تهاطل عليها الخطّاب، فاختارت مَن اعتقدت أنّه الأكثر وسامة والأكثر شجاعة، وتزوّجته. معزوزة لم يأتها خطّاب، ربّما لأنّها أعلنت الحداد على حبيب لا تربطها به صلة شرعيّة. إنّهم يعاقبون معزوزة على وفائها، وهي ناقمة عليهم، ناقمة أيضًا على أخيها المختار الذي يبدو كما لو أنّه يتشفّى بمصيرها لأنّها لم تخضع لمشيئته، ولم تقبل الزواج من عثمان، أو من أحد العرسان الذين ردّتهم على أعقابهم. وللحقيقة، فقد كانت معجبة بعثمان، ولم تشأ أن تكسر عهدها الذي عاهدت عليه روح حبيبها.

وتمنّت في سرّها لو أنّ عثمان ينتظرها إلى أن تنتهي فترة الحداد. كادت ترسل له خبرًا تؤكّد فيه رغبتها في الزواج به، وهي تتوقّع منه أن ينتظر، وقبل أن يصله اقتراحها وافق على الزواج بأختها هيفاء. وهي الخاسرة الآن. تزوّجت أختها التي تصغرها في السن وهي لم تتزوّج. ولربّما أثّر عليها عقم أختها مهيوبة، التي تزوّجها علي أوغلو قبل سنوات، ولم تنجب. لكن، لماذا تعتبر أختها مسؤولة عن مشكلتها؟ هذا ليس إنصافًا، وقد لا تكون أختها عقيمًا، فلا يعلم بأمور الحَبَل والإنجاب سوى ربّ العباد. معزوزة ستعطي مهلة لنفسها وللخطّاب سنة أخرى، فإنْ لم يتقدّم أحد لخطبتها، فسوف تتبنّت وتعلن رفضها للزواج، وستعيش حياتها مثل راهبة متبتّلة ولن تكترث لأيّ كان. ولم يحمل المختار في قلبه همّ معزوزة وحدها.

*مقتطف من رواية "فرس العائلة"
المساهمون