سعى رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، إلى تقديم عقارب ساعته كثيراً هذه المرة، في إطار المعركة مع تنظيم "الدولة الإسلامية"، (داعش). وبدلاً من محاولة تصحيح الأخطاء التي ارتكبها سلفه نوري المالكي، حاول التركيز على مواجهة "داعش"، من خلال التبكير بالهجوم على مدينة تكريت، بعيداً عن الخطة الأميركية التي أعدّها فريق المستشارين الأميركيين العامل في بغداد، منذ الثاني من سبتمبر/ أيلول الماضي.
العبادي فاجأ الأميركيين ولم يستشرهم بالهجوم على المدينة، وفقاً لما أكدته تقارير أميركية، نقلت تصريحات عن مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، تفيد بأن "رئيس الوزراء خطط للهجوم بحملة واسعة، من دون أن يبلّغ القيادة العسكرية الأميركية أو قوات التحالف بذلك". ونقل موقع "دايلي بيست"، عن مسؤول أميركي قوله إن "الهجوم يتم بمساعدة عسكرية إيرانية لاستعادة المدينة من داعش".
وعلى الرغم من مرور أيام عدة على الهجوم البري والجوي الواسع على تكريت، ثاني أكبر المدن العراقية التي تسيطر عليها "داعش"، إلا أن أي تقدّم ملحوظ لم يتحقق حتى الآن. ويشارك في الهجوم نحو 25 ألف جندي، موزعين بين جيش نظامي، وقوات تابعة للداخلية العراقية، ومليشيات مسلحة، والعشرات من الحرس الثوري بقيادة قاسم سليماني، وغالبيتهم من فصيل "الإمام الغائب"، الذي عادة ما تناط به مهمة الاقتحامات وحرب الشوارع والمناطق الضيقة.
تسعى الحكومة العراقية من خلال منع رفع شعارات طائفية من قبل المليشيات التي تساند قواتها النظامية، إلى منح المعركة طابعاً وطنياً خالصاً، بعيداً عن الاصطفاف الطائفي. في هذا السياق، تخصص القناة الحكومية، "العراقية"، ساعات طويلة من بثّها في إذاعة أغانٍ حماسية وطنية، تمجّد الجيش، مع أناشيد تتناول عبارة "أرضنا نحررها بدمائنا".
وأقدم العبادي، في الساعات الأولى للعملية، على تغيير اسمها من "الثأر لشهداء سبايكر"، في إشارة إلى قتل "داعش" لـ1700 جندي في قاعدة سبايكر بتكريت عند احتلالها، إلى اسم آخر مختلف تماماً، وهو عملية "لبيك يا رسول الله".
لكن الواقع مختلف كثيراً، إذ تساند القطعات البرية المهاجمة، الآلاف من عناصر المليشيات والعشرات من الحرس الثوري، الذي زجّ مدافع ثقيلة، للمرة الأولى في العراق، أمطرت تكريت من أعلى جبال حمرين، الواقعة على بعد 30 كيلومتراً في شمال شرقها.
وكشفت تصريحات القادة العراقيين العسكريين والسياسيين، أمس الأربعاء، احتمال أن تطول العملية لأيام أو أسابيع عدة، ما يعكس شراسة المعركة وإصرار "داعش" على عدم الانتحار في العراق بشكل كلاسيكي، أو مكرر، كباقي الجماعات، التي تمكّنت سابقاً من الإمساك بمناطق جغرافية وبسط سلطتها وقوانينها عليها.
وما يعزز نوايا التنظيم، هو إعلانه، في شريط فيديو، مساء أمس، عن وصول المئات من المقاتلين التابعين له إلى داخل تكريت، آتين من سورية ومدينة الموصل العراقية، لتعزيز ما وصفه بـ"أمن المدينة وصدّ الطامعين بأراضي الدولة الإسلامية".
إقرأ أيضاً: صور وفيديوهات لـ"مليشيات "الحشد الشعبي": يعدمون الأطفال في العراق
يتفرّج الأميركيون الآن، كباقي دول التحالف، على معركة تكريت، على الرغم من تأمينهم غطاءً جوياً كثيفاً، وشنّهم غارات مؤثرة على مراكز ونقاط القوة داخل هيكل التنظيم في تكريت وضواحيها، إلا أن الأميركيين نأوا بأنفسهم عن الهجوم، ولم يعلّقوا كعادتهم على بيانات وزارتي الدفاع والداخلية، بخصوص الحرب على "داعش".
من جهتها، سخّرت إيران عبر وسائل إعلامها الناطقة باللغة العربية، طاقاتها لدعم الحملة العسكرية، من خلال نشرات الأخبار والتقارير المستمرة على مدار الساعة. كما حصل مع قناتي "العالم" و"آفاق"، اللتين أطلقتا "هاشتاغ" على موقعي "تويتر" و"فيسبوك"، بعنوان "رجالنا في تكريت".
وتتمركز القوات المهاجمة على مسافات متفاوتة من تكريت، إذ تبتعد بنحو كيلومترين فقط عن أقرب الأحياء الشرقية في المدينة، ونحو 12 كيلومتراً عن أقرب أحيائها الغربية، وبعد سكوت أصوات الرصاص من البنادق الخفيفة والمتوسطة، اندلعت حرب الصواريخ والمدافع بين الجانبين.
وحول مجريات المعارك في تكريت، يؤكد المستشار في وزارة الدفاع العراقية، محمد الجبوري، في حديث لـ"العربي الجديد"، امتلاك الطرفين عوامل تفوّق بشكل متباين. ويضيف "يبلغ عدد مقاتلي داعش المتواجدين في المدينة، حوالي 2000 ـ 3000 مقاتل، بينهم نحو 100 انتحاري و300 آخرين من كتيبة أبو دجانة الأنصاري".
ويتابع: "ينتمي غالبيتهم إلى بلدان شمال أفريقيا، كتونس والجزائر والمغرب وليبيا، ويوجد بينهم أيضاً سوريون ويمنيون، يتحصّنون خلف تضاريس طبيعية، مكّنتهم من تخفيف وقع الغارات الجوية عليهم. كما ساهمت المباني الطرفية المحيطة بالمدينة، وكثافة الأشجار في المحورين الشرقي والشمالي، في تصميم دفاع التنظيم". وعن أسلحتهم، يشير الجبوري إلى أنهم "يملكون أسلحة ثقيلة وخفيفة ومتوسطة ودبابات ودروع ومدافع ثقيلة، استولوا عليها من الجيش عند احتلالهم تكريت وضواحيها، في 13 يونيو/ حزيران الماضي".
ويتابع الجبوري: "تشير معلوماتنا إلى أنهم سيقاتلون حتى النهاية، وكل مقاتل سيفجّر نفسه لمنع أسره، لذا المعركة صعبة للغاية، وسبق أن مرّت القوات الأميركية بالتجربة عينها في العام 2004، في الفلوجة، واضطرت في حينه إلى استخدام مادة الفوسفور الأبيض، بعد استعصاء دخولها بعد 20 يوماً من المعارك الضارية. وهو ما لن يحصل معنا بالتأكيد حتى لو امتلكنا هذا السلاح". وكشف أن "عناصر داعش يمتلكون الأفضلية في الإمساك بالأرض وطبيعتها، عكس القوات العراقية المشتركة، التي تتواجد في مناطق صحراوية مفتوحة، تجعلهم مكشوفين أمام رشقات الصواريخ والقذائف المدفعية".
في المقابل، يؤكد أن "القوات العراقية تمتلك الأفضلية على مدار الوقت، عبر استمرار إمدادات السلاح والمقاتلين والغطاء الجوي، فالقذيفة التي يطلقها داعش لا تُعوّض، على عكسنا. كما أن عديد مقاتليه ينقص، ويقبعون الآن في فخّ الاستنزاف الذي لن يطول كثيراً".
ويبدو حديث الجبوري عن الأفضلية للجيش العراقي، غير مقنعة بشكل كبير، فالشارع الجنوبي في العراق يتململ من مواكب القتلى اليومية، التي تدخل مدنه. كما أن الجنوب يشهد تظاهرات تحت شعار "المدن يحررها أهلها"، في إشارة الى وجوب أن يقاتل أهل كل مدينة بأنفسهم لتحرير مدنهم، لا أن يُرسل مقاتلون من مناطق أخرى لتحريرها، في عامل قد يوقف الحملة العسكرية بشكل مؤقت أو حتى بشكل نهائي.
وحول ذلك، يقول أحد زعماء القبائل في جنوب العراق، الشيخ حسين مجباس الزبيدي، لـ"العربي الجديد"، إنه "وصلت حتى الآن جثامين 71 شاباً من أبناء الجنوب تحملها سيارات الشحن، قُتلوا في تكريت والعلم وبيجي خلال ثلاثة أيام فقط".
وتابع: "هذه ليست حربنا، أهل المدن ينزحون إلى المخيمات ويتلقون المساعدات من المنظمات والحكومة، وينتظرون منا التضحية بأبنائنا، كي يعودوا إلى منازلهم ومدنهم. يجب على الحكومة أن تتوقف عن حرق أبنائنا في غرب وشمال العراق، وعلى كل إنسان تنظيف بيته ولا ينتظر أحد أن ينظفه له".
ووفقاً لسير المعارك، سينحصر المشهد في تكريت بين حكايتين أو سيناريوهين: في حال فشل الهجوم وإخفاق القوات العراقية النظامية والمليشيات التي تساندها أو القوات الإيرانية في السيطرة على المدينة، فإن ذلك سيعني عجز الجهود العراقية من معالجة ورقة "داعش" في كل العراق. وإذا عجزت الحكومة العراقية عن الدخول إلى تكريت، التي تعادل ثلث مساحة الموصل فقط، فكيف سيكون الحال مع الموصل أو حتى مدن الأنبار، التي تمثل ما مساحته 33 بالمئة من إجمالي حجم الدولة العراقية؟ سيناريو سيجعل العبادي معذوراً أمام شركائه في "التحالف الوطني"، تحديداً الجناح الموالي لإيران (ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي)، في حال طلبه بشكل رسمي دخول الجيش الأميركي للعراق مجدداً لمعالجة الموضوع، والذي لن يتحقق قبل نهاية العام الجاري على أبعد تقدير، لأسباب تتعلق بالأميركيين أنفسهم، إذ سيمهدون لدخول قواتهم بحملة جوية كثيفة واسعة في العراق، تُنهك قوات "داعش" لتسهيل مهمة "المارينز".
وسيُحرج هذا السيناريو المعارضين للوجود الأميركي، من صقور "التحالف الوطني"، لذا ستحرص إيران على إنجاح معركة تكريت بكل السبل، من أجل تعزيز نفوذها في العراق أولاً، وإثبات عدم نفع الحديث مستقبلاً عن أي تدخل غربي في العراق ثانياً. ومهدت طهران لذلك، عبر إعلانها رسمياً، وللمرة الأولى، عبر وكالة أنباء "فارس"، عن وصول سليماني إلى تكريت كداعم، لا كقائد لهذه المعركة. وسيدفع نجاح عملية تكريت واستعادة السيطرة على كامل المدينة ومدن محافظة صلاح الدين، إلى فتح الشهية الإيرانية لمهاجمة الموصل ومدن الأنبار الأخرى، لتحقيق "إنجاز آخر"، على حساب "داعش".
أما السيناريو المتوقع في حال نجاح الحملة، فيتجسّد بالتنسيق غير المباشر بين الأميركيين والإيرانيين في الملف العراقي، ويكون عبر الوسيط المتمثل بالحكومة العراقية، مع إبقاء الولايات المتحدة على ثقلها عراقياً، وزيادته تدريجياً من خلال الدعم الجوي.
ويعني ذلك أن أمد الحرب سيطول لفترة أكبر، قد تمتد حتى نهاية العام 2017، وهو ما لا ترغب به بغداد طبعاً، بالتالي فإن الهجوم على تكريت، لا يعني بالضرورة نجاحه في الموصل والأنبار. وهو ما يعني أن خيار دخول "المنقذ" الأميركي سيبقى قائماً.
إقرأ أيضاً: "العربي الجديد" يدخل ساحة المواجهات بين "داعش" والقوات العراقية