01 يناير 2024
معركة الأقصى.. رابحون وخاسرون
لا يمكن الجدال في أن ما شهدناه في الأقصى، في النصف الأخير من شهر يوليو/ تموز الماضي، كان صراعاً أقرب إلى المعركة، معركة ربحها المقدسيون والشعب الفلسطيني، من دون أن تؤدي أو تقود إلى الانتصار في الحرب الشاملة، أي حرب تحرير فلسطين، والعكس طبعاً بالنسبة لإسرائيل التي خسرت المعركة، لكنها ما زالت رابحة في الحرب، أي مواصلة احتلالها القدس وفلسطين.
إذن، كان في معركة الأقصى أخيراً رابح أساسي وخاسر أساسي، وبين هؤلاء وهؤلاء كان رابحون، ولكن بشكل نسبي، كما كان خاسرون، وبشكل نسبي أيضاً.
الرابح الأساسي والمركزي هم المقدسيون، ومعهم الشعب الفلسطيني بشكل عام، خاضوا المعركة بثبات وعناد وصمود، أفشلوا خطط الاحتلال في فرض هيمنته، وسيادته على الحرم القدسي الشريف. وكانت خطوة تركيب البوابات الإلكترونية المرحلة الأولى على طريق استنساخ نموذج الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل، وفرض التقسيم الزماني والمكاني للحرم القدسي، وصولاً حتى إلى هدمه، إذا ما سمحت الظروف، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه.
خاض المقدسيون المعركة وحدهم تقريباً، مع دعم تعاطف شعبي فلسطيني كبير وواضح. ولكن، على الأرض كانوا وحدهم من دون قيادة سياسية فعلية، بينما كانت القيادة بيد الدعاة والمرجعيات الدينية، مسؤولي الأوقاف الإسلامية والأقصى. وعلى الرغم من غياب هدف أو عنوان سياسي محدّد للصراع، إلا أن المعركة نفسها سياسية بامتياز، وتمحورت حول رفض سيادة الاحتلال على الحرم، حتى مع احتلاله المدينة وفلسطين، مع إبقاء الوضع الراهن قبل عملية الـ"غبارية" والمستمر عملياً منذ النكبة الثانية في يونيو/ حزيران 1967.
ما سهل الانتصار في المعركة ليس فقط امتلاك الحق، وإنما الحكمة أيضاً عبر خوض صراع شعبي جماهيري، سلمي أساساً، بعيداً عن العنف والسلاح. وبالتالي، تقييد أيادي إسرائيل، ومنعها من البطش أو استخدام القوة المفرطة بحق المنتفضين. والأهم كان النجاح في تعزيز الصورة الواقعية الحقيقية والصحيحة، حيث الشعب الفلسطيني الأعزل مدافعاً عن حريته وحقه في الحياة والحركة والعبادة والتنقل أمام القوة العسكرية الغاشمة القائمة بالاحتلال.
انخرط الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 48 في المعركة، جنباً إلى جنب مع المقدسيين، وقاموا بدور أساسي فيها. وأعتقد جازماً أن مفردة المقدسيين تشملهم أيضاً، ولو مجازاً أو معنوياً. كانوا دائماً في الميدان دفاعاً عن الأقصى، ورفضاً للممارسات الاستيطانية والتهويدية فيها. وعلى الرغم من مبالغة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، إلا أن ما يقولونه عن دور الشيخ رائد صالح ورفاقه وعرب 48، فيه جانب كبير من الصحة والدقة، فهم يتصرفون باعتبارهم مقدسيين، ولا يمكن تحجيمهم أو إقصاؤهم. ووجودهم في الميدان إلى جانب المقدسيين يراكم الصعوبات والعراقيل أمام إسرائيل، للانتصار في مخططاتها ومشاريعها التقسيمية، أو حتى التدميرية.
ثمة رابحون آخرون فقط بشكل نسبي ومجازي، فحركة حماس مثلاً ومعها حركات المقاومة أظهرت التعاطف الكبير، وخاضت المعركة السياسية والإعلامية إلى جانب المعتصمين والمنتفضين، ولكن على أرض الواقع بدت عاجزة عن نصرة هبّة الأقصى، الأمر الذي تجسّد واضحا في غزة تحديداً، حيث لم يكن سوى التظاهرات والاعتصامات السلمية في إظهار أو إقرار بالعجز عن نجدة الأقصى، ورفع الحصار عنه بالصواريخ أو بالقوة العسكرية المسلحة، على الرغم من إبقاء سقف المواقف المرتفع المهدّد لفظياً أو كلامياً فقط، وعدم التراجع عن فكرة أو نظرية أن تحرير الأقصى يجري فقط بالقوة العسكرية والمسلحة، وانطلاقاً من غزة تحديداً.
كان الرئيس محمود عباس رابحاً بشكل نسبي أو مجازي أيضاً. التحق بالمعركة في لحظاتها الأخيرة. ربما فهم، كسياسي مجرب وعتيق، أن إسرائيل خسرتها وأنها مضطرة إلى التراجع، وكان قد انضم فعلياً للمعركة في بداية أسبوعها الثاني، وبعدما كانت قد حسمت عملياً، وبادر إلى وقف التنسيق الأمني، بينما كان المجلس الوزاري الإسرائيلى المصغر قد اتخذ فعلياً قرار التراجع وتفكيك البوابات الإلكترونية والكاميرات. وحاول عباس استخدام المعركة، لتحسين وضعه السياسي المتراجع، ليس فقط للرد على تفاهم محمد دحلان - حماس، وإنما على الاستخفاف الإسرائيلي العربي به، ورفض نتنياهو التعاطي الجدي مع الجهود (أو شبه الجهود) الأميركية الفارغة من أي مضمون.
إسرائيل خاسر أساسي. أذعنت واضطرت إلى التراجع عن خطواتها، وعن رغبتها في فرض سيادتها وسيطرتها الفعلية، وعن إجراء التقسيم الزماني والمكاني للحرم. تراجعت تحت الضغط، وبعدما كان نتنياهو قد غلب أصلاً اعتباراته الحزبية السياسية والأيديولوجية على الاعتبارات الأمنية، كما كان معهوداً في الدولة العبرية منذ تأسيسها. جهاز الأمن الإسرائيلي (الشاباك) والجيش رفضا أو تحفظا على تركيب البوابات والكاميرات، وشكّكا في جدواها الأمنية، لكن الشرطة ووزيرها أيداها لدوافع حزبية، من دون إجراء النقاشات الأمنية والعميقة، وهو ما فعله ممثلو اليمين المتطرّف في الحكومة.
خسرت إسرائيل كذلك، في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية وعودتها إلى بؤرة الاهتمام الإقليمي والدولي، خصوصا بعدما تهيأ لإسرائيل أنها نجحت في حجب هذه القضية، أو على الأقل في استغلال التحولات والأخطار الإقليمية وتضخيمها، مثل "داعش"، وكذا الإرهاب والمطامع والسياسات الإيرانية التقسيمية، وتكريس فكرة أن الخطر على الاستقرار الإقليمي لا يأتي من الاحتلال، وأن القضية الفلسطينية لم تعد مركزية أو ذات أولوية، لكن الغطرسة الجشعة، والرغبة في تغيير الوضع الراهن الذي استفادت منه أصلاً لصالحها، ارتدتا سلباً عليها، ومثل ذلك، أي الثمن الباهظ للتغيير، أحد أسباب التراجع، سواء في الأقصى أو الضفة وغزة وعموم فلسطين والمنطقة.
واحد من التأثيرات السلبية على تل أبيب كان تضرّر سيرورة التطبيع والتحالف غير المعلن مع دول عربية، فمع تصاعد الوضع وعناد المقدسيين وثباتهم، وعودة القضية إلى عناوين الصحف والأجندة السياسية، تأثرت سلباً العلاقات العلنية والمستترة بين تل أبيب وعواصم عربية مهمة. ولم يكن ممكنا مناقشة أو الاهتمام بأي ملف ثنائي أو إقليمي. في ظل الوضع المتفجر في الأقصى، والذي أدى إلى إحراج في العواصم المعنية، فهي لا تستطيع تبني وجهة النظر الشعبية الفلسطينية، كونه يصب في مصلحة خصومها السياسيين، ولا تستطيع تبني وجهة النظر الإسرائيلية، كونه يحرجها أمام شعوبها، وينال من هيبتها، والنتيجة أن القضية باتت محرجة جداً وضاغطة، ووقفت حجر عثرة في طريق العلاقات أو سيرورة العلاقات المتنامية. وكان هذا أيضاً أحد أسباب التراجع والانحناء الإسرائيلي، وفق تقديرات الأجهزة الأمنية وتحذيراتها.
شركاء إسرائيل العرب وحلفاؤها خاسرون بشكل نسبي، لم ينتفضوا أو يرفضوا فكرة البوابات، وقبلوا مغزاها الأمني، من دون أي اهتمام واعتبار لمغزاها الديني السياسي والتاريخي. ومع رفض المقدسيين وعنادهم، اضطروا إلى التراجع، ولكن من دون أي ضغط جدّي، وبدوا مستعدين لفكرة الحلول الوسط التي رفضها حتى الرئيس عباس الذي يمكن فهم تشدّده ووضعه في سياق الرد على تجاهل زعماء عرب له، كما على دعمهم تفاهم دحلان - حماس ضده، مع أنه المسؤول المباشر عن تلاقي خصومه، كما عن الأوضاع البائسة في غزة، والمشروع الوطنى بشكل عام.
التحالف الأقلّوي المذهبي، وجناحه العسكري الحشد الشعبي، المتفشّي كالسرطان في طول المنطقة وعرضها، يعتبر كذلك أحد الخاسرين، فعلى الرغم من الصخب والصوت العالي، إلا أنه لم يفعل شيئاً لمساندة المقدسيين، وطريق القدس تشعبت لديه، إذ تتضمن مناطق بعيدة ذات أجندة مذهبية، بينما تبعد المدينة المقدسة كيلومترات معدودة عن درعا عرسال القصير، ناهيك عن الادعاء الفج بأن الانقلاب والتحالف مع الفلول في اليمن، أو التطهير العرقي في حلب والموصل والرمادي، تأتي في سياق المعركة المزعومة من أجل القدس.
خاض المقدسيون المعركة وحدهم من دون قيادة سياسية (التحقت مضطرة ومتأخرة بهم). خاضوها كما ينبغي بشكل محق وحكيم، وفي إطار جماهيري سلمي، من دون سلاح أو عنف، بينما جاء هذا من الاحتلال الذي لم يكن يملك أي فرصة للانتصار، ولم يكن عليه سوى التراجع والتفتيش في أجندته العنصرية القهرية المسلحة عن أساليب أخرى، لاستعادة قدرة الردع المستحيلة مع نجاح المقدسيين وقيادتهم الميدانية في تحييد آلته العسكرية الفتاكة والقاتلة.
إذن، كان في معركة الأقصى أخيراً رابح أساسي وخاسر أساسي، وبين هؤلاء وهؤلاء كان رابحون، ولكن بشكل نسبي، كما كان خاسرون، وبشكل نسبي أيضاً.
الرابح الأساسي والمركزي هم المقدسيون، ومعهم الشعب الفلسطيني بشكل عام، خاضوا المعركة بثبات وعناد وصمود، أفشلوا خطط الاحتلال في فرض هيمنته، وسيادته على الحرم القدسي الشريف. وكانت خطوة تركيب البوابات الإلكترونية المرحلة الأولى على طريق استنساخ نموذج الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل، وفرض التقسيم الزماني والمكاني للحرم القدسي، وصولاً حتى إلى هدمه، إذا ما سمحت الظروف، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه.
خاض المقدسيون المعركة وحدهم تقريباً، مع دعم تعاطف شعبي فلسطيني كبير وواضح. ولكن، على الأرض كانوا وحدهم من دون قيادة سياسية فعلية، بينما كانت القيادة بيد الدعاة والمرجعيات الدينية، مسؤولي الأوقاف الإسلامية والأقصى. وعلى الرغم من غياب هدف أو عنوان سياسي محدّد للصراع، إلا أن المعركة نفسها سياسية بامتياز، وتمحورت حول رفض سيادة الاحتلال على الحرم، حتى مع احتلاله المدينة وفلسطين، مع إبقاء الوضع الراهن قبل عملية الـ"غبارية" والمستمر عملياً منذ النكبة الثانية في يونيو/ حزيران 1967.
ما سهل الانتصار في المعركة ليس فقط امتلاك الحق، وإنما الحكمة أيضاً عبر خوض صراع شعبي جماهيري، سلمي أساساً، بعيداً عن العنف والسلاح. وبالتالي، تقييد أيادي إسرائيل، ومنعها من البطش أو استخدام القوة المفرطة بحق المنتفضين. والأهم كان النجاح في تعزيز الصورة الواقعية الحقيقية والصحيحة، حيث الشعب الفلسطيني الأعزل مدافعاً عن حريته وحقه في الحياة والحركة والعبادة والتنقل أمام القوة العسكرية الغاشمة القائمة بالاحتلال.
انخرط الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 48 في المعركة، جنباً إلى جنب مع المقدسيين، وقاموا بدور أساسي فيها. وأعتقد جازماً أن مفردة المقدسيين تشملهم أيضاً، ولو مجازاً أو معنوياً. كانوا دائماً في الميدان دفاعاً عن الأقصى، ورفضاً للممارسات الاستيطانية والتهويدية فيها. وعلى الرغم من مبالغة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، إلا أن ما يقولونه عن دور الشيخ رائد صالح ورفاقه وعرب 48، فيه جانب كبير من الصحة والدقة، فهم يتصرفون باعتبارهم مقدسيين، ولا يمكن تحجيمهم أو إقصاؤهم. ووجودهم في الميدان إلى جانب المقدسيين يراكم الصعوبات والعراقيل أمام إسرائيل، للانتصار في مخططاتها ومشاريعها التقسيمية، أو حتى التدميرية.
ثمة رابحون آخرون فقط بشكل نسبي ومجازي، فحركة حماس مثلاً ومعها حركات المقاومة أظهرت التعاطف الكبير، وخاضت المعركة السياسية والإعلامية إلى جانب المعتصمين والمنتفضين، ولكن على أرض الواقع بدت عاجزة عن نصرة هبّة الأقصى، الأمر الذي تجسّد واضحا في غزة تحديداً، حيث لم يكن سوى التظاهرات والاعتصامات السلمية في إظهار أو إقرار بالعجز عن نجدة الأقصى، ورفع الحصار عنه بالصواريخ أو بالقوة العسكرية المسلحة، على الرغم من إبقاء سقف المواقف المرتفع المهدّد لفظياً أو كلامياً فقط، وعدم التراجع عن فكرة أو نظرية أن تحرير الأقصى يجري فقط بالقوة العسكرية والمسلحة، وانطلاقاً من غزة تحديداً.
كان الرئيس محمود عباس رابحاً بشكل نسبي أو مجازي أيضاً. التحق بالمعركة في لحظاتها الأخيرة. ربما فهم، كسياسي مجرب وعتيق، أن إسرائيل خسرتها وأنها مضطرة إلى التراجع، وكان قد انضم فعلياً للمعركة في بداية أسبوعها الثاني، وبعدما كانت قد حسمت عملياً، وبادر إلى وقف التنسيق الأمني، بينما كان المجلس الوزاري الإسرائيلى المصغر قد اتخذ فعلياً قرار التراجع وتفكيك البوابات الإلكترونية والكاميرات. وحاول عباس استخدام المعركة، لتحسين وضعه السياسي المتراجع، ليس فقط للرد على تفاهم محمد دحلان - حماس، وإنما على الاستخفاف الإسرائيلي العربي به، ورفض نتنياهو التعاطي الجدي مع الجهود (أو شبه الجهود) الأميركية الفارغة من أي مضمون.
إسرائيل خاسر أساسي. أذعنت واضطرت إلى التراجع عن خطواتها، وعن رغبتها في فرض سيادتها وسيطرتها الفعلية، وعن إجراء التقسيم الزماني والمكاني للحرم. تراجعت تحت الضغط، وبعدما كان نتنياهو قد غلب أصلاً اعتباراته الحزبية السياسية والأيديولوجية على الاعتبارات الأمنية، كما كان معهوداً في الدولة العبرية منذ تأسيسها. جهاز الأمن الإسرائيلي (الشاباك) والجيش رفضا أو تحفظا على تركيب البوابات والكاميرات، وشكّكا في جدواها الأمنية، لكن الشرطة ووزيرها أيداها لدوافع حزبية، من دون إجراء النقاشات الأمنية والعميقة، وهو ما فعله ممثلو اليمين المتطرّف في الحكومة.
خسرت إسرائيل كذلك، في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية وعودتها إلى بؤرة الاهتمام الإقليمي والدولي، خصوصا بعدما تهيأ لإسرائيل أنها نجحت في حجب هذه القضية، أو على الأقل في استغلال التحولات والأخطار الإقليمية وتضخيمها، مثل "داعش"، وكذا الإرهاب والمطامع والسياسات الإيرانية التقسيمية، وتكريس فكرة أن الخطر على الاستقرار الإقليمي لا يأتي من الاحتلال، وأن القضية الفلسطينية لم تعد مركزية أو ذات أولوية، لكن الغطرسة الجشعة، والرغبة في تغيير الوضع الراهن الذي استفادت منه أصلاً لصالحها، ارتدتا سلباً عليها، ومثل ذلك، أي الثمن الباهظ للتغيير، أحد أسباب التراجع، سواء في الأقصى أو الضفة وغزة وعموم فلسطين والمنطقة.
واحد من التأثيرات السلبية على تل أبيب كان تضرّر سيرورة التطبيع والتحالف غير المعلن مع دول عربية، فمع تصاعد الوضع وعناد المقدسيين وثباتهم، وعودة القضية إلى عناوين الصحف والأجندة السياسية، تأثرت سلباً العلاقات العلنية والمستترة بين تل أبيب وعواصم عربية مهمة. ولم يكن ممكنا مناقشة أو الاهتمام بأي ملف ثنائي أو إقليمي. في ظل الوضع المتفجر في الأقصى، والذي أدى إلى إحراج في العواصم المعنية، فهي لا تستطيع تبني وجهة النظر الشعبية الفلسطينية، كونه يصب في مصلحة خصومها السياسيين، ولا تستطيع تبني وجهة النظر الإسرائيلية، كونه يحرجها أمام شعوبها، وينال من هيبتها، والنتيجة أن القضية باتت محرجة جداً وضاغطة، ووقفت حجر عثرة في طريق العلاقات أو سيرورة العلاقات المتنامية. وكان هذا أيضاً أحد أسباب التراجع والانحناء الإسرائيلي، وفق تقديرات الأجهزة الأمنية وتحذيراتها.
شركاء إسرائيل العرب وحلفاؤها خاسرون بشكل نسبي، لم ينتفضوا أو يرفضوا فكرة البوابات، وقبلوا مغزاها الأمني، من دون أي اهتمام واعتبار لمغزاها الديني السياسي والتاريخي. ومع رفض المقدسيين وعنادهم، اضطروا إلى التراجع، ولكن من دون أي ضغط جدّي، وبدوا مستعدين لفكرة الحلول الوسط التي رفضها حتى الرئيس عباس الذي يمكن فهم تشدّده ووضعه في سياق الرد على تجاهل زعماء عرب له، كما على دعمهم تفاهم دحلان - حماس ضده، مع أنه المسؤول المباشر عن تلاقي خصومه، كما عن الأوضاع البائسة في غزة، والمشروع الوطنى بشكل عام.
التحالف الأقلّوي المذهبي، وجناحه العسكري الحشد الشعبي، المتفشّي كالسرطان في طول المنطقة وعرضها، يعتبر كذلك أحد الخاسرين، فعلى الرغم من الصخب والصوت العالي، إلا أنه لم يفعل شيئاً لمساندة المقدسيين، وطريق القدس تشعبت لديه، إذ تتضمن مناطق بعيدة ذات أجندة مذهبية، بينما تبعد المدينة المقدسة كيلومترات معدودة عن درعا عرسال القصير، ناهيك عن الادعاء الفج بأن الانقلاب والتحالف مع الفلول في اليمن، أو التطهير العرقي في حلب والموصل والرمادي، تأتي في سياق المعركة المزعومة من أجل القدس.
خاض المقدسيون المعركة وحدهم من دون قيادة سياسية (التحقت مضطرة ومتأخرة بهم). خاضوها كما ينبغي بشكل محق وحكيم، وفي إطار جماهيري سلمي، من دون سلاح أو عنف، بينما جاء هذا من الاحتلال الذي لم يكن يملك أي فرصة للانتصار، ولم يكن عليه سوى التراجع والتفتيش في أجندته العنصرية القهرية المسلحة عن أساليب أخرى، لاستعادة قدرة الردع المستحيلة مع نجاح المقدسيين وقيادتهم الميدانية في تحييد آلته العسكرية الفتاكة والقاتلة.