معارك صغيرة

16 مارس 2015
+ الخط -
القَتلة لا يَأتون إلاّ في القصص.
تَطاير الشرر، وتشبّع الجلدُ مرارة الصلب. باهتة كانت اليدين، راجفة حين شدّت الحديدَ على الكتف وكأنّهُ عصاة الأحلام السحرية! تَشبّع الأنف الساخر شهوةِ البارود. وزفرت الأنفاس زَنخَ الغلالة الرقيقة تحت الأوردة، وزعقت الأسنانُ الصفراء التي ابتسمت للجثثِ المشنوقةِ على قارعات المدن المستباحة، كأنّ القيامةَ قد انطلقت من عُنق فوهة.
انصَهر الحديد، وبعثَ الدفئ في الأطراف التي ورِثت صقيعَ آدم. لم تختلف رائحةُ الحديد التي انبعثت عن رائحةِ المدفئةِ التي كُنّا نلتفُّ حولها في طفوتنا لمّا تفتحُ السماء بابها الرماديّ الداكن، فيخرج الأقزام والجنيات والغولة وأبو فريوة وقطاع الطرق وأبو راسين، ويتقافزون على النوافذ، فنتكوّرُ على بعضنا متناسيين لسّعة البرد السفاح الشاحذُ سكينهُ في عِظامنا. ننام فيتسلّلون إلى أحلامنا ويعلنونَ المعركة.
الرائحة ذاتها تَداعت عندما أَخرج الكلاشن المدفونة في التّبان. اختلطت رائِحةُ الحديد برائحة الزبل. ابتسمَ بمرارة واستحالت الابتسامةُ إلى سُخرية. وبالقربِ من المدفأةِ جلسنا ثلاثة أطفالٍ بأجساد رجال، نُبحلقُ بالتماع النارِ المتراقصِ على الرصاص، الذي سيدفن آخر شتلات الدهشة في أرواحنا. كأنّ قِصصَ السفاحين قد عادت لترتدي أسماءً ووجوهاً حقيقة. ولم تكن الجدات والأمهات والحبيبات حاضرات ليطردنَ الفزع المتلثم في العظام، ويهدئن رعشةَ الخوف في شعيرات الأنف، فتتقلص الشفاه بابتسامةٍ باهتة بحثاً عن اليد التي ستُطفئ لهيبَ الخوفِ بالنوم… نام الأصدقاء بعد أن قتلتهم قِصصُ الجنيات والغول وأبو فريوة والأقزام وقطاعي الطرق وأبو راسين.
أرضُ المعركةِ ليست لنا!
لمست يدي الراجفة. كان البحر يمتّدُ ميتاً كالحديد، واخزاً كرائحةِ البارود. عَميت. هبط العشى على عينيّ، ولم أستطع تمييز المساحة التي تفصل داخلي عن خارجي. كأنني زئبقٌ يتفلطحُ دون وجهة. كان وجهُها حليبياً “كالعمى المفاجئ”، ورائحتها كالفجر البارد. أحنت يدها على جبهتي ورسمت بأصابع كفها ملامحي التي ضاعت كما يضيع الطينُ في الخطوات. كُنت رخواً ككيس تركله الأماكن، حيثُ بدأ التيه مُنذ اللحظة التي تحولت فيها الدماء مرةً أُخرى إلى قصص. كُنت فزعاً من السماء الرمادية التي فتحت أبوابها ليخرج القتلة! كنت أهذي وفي كلّ مرةٍ كُنت أقول لها: نام الأصدقاء! كانت تقول: أرضُ المعركةِ ليست لنا.
لا أحد يعرفُ أين ومتى بدأت! كانت محتدمةً في الأزقة والحواري. وكانت الدماء الزنخة تجري تحت الأقدام. لم نكن مرئيين للبيوت الزجاجية التي ارتفعت كما ترتفعُ القصص على أبطالها المجهولين، حين يحترفُ القاص نثرَ الدهشة على الجفون.
كانت معارك صغيرة نخوضها في صفوف المدرسة الابتدائية. عيونٌ باهتةٌ ممتقعة من الجوع، تتعاركُ على سندويشة “اللبنة” المهربة في الحقيبة الصغيرة. أحناكٌ تُهشم على “حنفيات المياه” أثناءَ “الفرصة” لتتكسّر الأضراس والأسنان الأمامية. نوباتُ ضحكٍ هستيرية تَجعل منّا معاتيه يطنون كالدبابير بين الأسوار الحديد فزعاً من العصي الطويلة التي كانت تحمي عبارات: "العِلمُ نور". وتحتَ "العلم المرفرف" بردنا أضافرنا على الجدار الخشن لنمزّق هشاشة الطفولة ورقة الدهشة. نمرغُ أنفسنا بعالم الكبار، بعد أن نخترق سور الحديد العالي، فتتكسرت عظامنا وتصبح أكثر صلابة لممارسة الرذيلة المنتشرة في أنحاء المدينة. نتذوقُ دمائنا ونلعقُ انكسارنا. نَموءُ بالقرب من حاويات الزبالة، نُحدق في واجهات المحلات، ونُغلق الدموع بعد أن تتكاثف على شكل سائلٍ لزجٍ “يشرُّ” من أنوفنا.
ومن النافذة في الطابق الخامس كُنت ألمح المعارك المحتدمة في البيوت. صراخُ أطفال ينسحب من الجدران العمياء حيث ترشم دمائهم من لوثة “الأب الخالد”. نساء يهربن من بيوتهن سافرات في الليل وفي النهار لا تلمح وجوههن. “شياب” سكارى يبكون على نواصي الطريق من خيبةٍ متوارثة. رجالٌ مخصيين يقذفون في أدمغة أبنائهم، وفتيات يُعلقن على الجدران المتهاوية كزينة زائدة عن الحاجة، وجثثٌ تُدفن بصمت، تقطّع في الأقبية تحت الشوراع والمقاهي والساحات… جثث في الصباحات الدافئة التي يُتقاسم فيها شهوةُ الاحتفال.
"كولوسيوم"
تسلّلنا إلى الساحات كقرابين للفرجة، اتخد الجميع أمكنتهم ليراقبوا الاثارة والمتعة والتشويق!
تسلّلنا ممتلئين بالدهشة التي عادت من طفولةٍ بعيدة تغمرنا بأمواج حب لذيذ لذواتنا وللحياة وللآخرين… واستمرّ نزيف الدم.. ونام الأصدقاء الذين تحولوا لمادةٍ دسمة للسياسة والأدب والسينما والموسيقى والرقص. وكان دفئ البيوت، وضوضاء المقاهي، وصخب البارات، ورعشات اللذة، وحميمية الأمسيات، تحاك من دماء الأجنة الذين ولدوا كمقاتلين، حيث لا مكان لهم في هذا العالم سوى المعركة.
كان الحديد بارداً كالعظام المشبعة بالعفونة، ولاسعاً كالنصل، وموحشاً كالجليد. كان للحديد طعم النوم عندما ارتخت أصابعه في الطين ليخرج آلة القتل التي دفنت في الارض لسنين طويلة، بعد أن نجت من معركة ما. وكان للزبل طعمُ الحديد، وللندى صوته الأصم الموغل بالحياد. سألني: لماذا ستقاتل؟ وارتخت شفتي وكأنما الإبتسامة شق أعمى في الروح: لا شيء سوى أنها المعركة!
المساهمون