Facebook Post |
Facebook Post |
لكن ما لم يشِر إليه أيّ من هؤلاء المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، هو أن عمر المقال 5 سنوات، إذ نشر في صحيفة النهار في 2 مارس/آذار 2014، وقد حمل وقتها عنوان "حوادث السير تحصد العشرات يومياً: ما السبب؟" للصحافية اللبنانية ألين فرح.
لنعد قليلاً إلى تلك السنة تحديداً، أي 2014، وهي السنة التي شهدت تدفقاً كبيراً للاجئين السوريين إلى لبنان، نتيجة احتدام المعارك، وخروج مقاتلي المعارضة السورية من حمص، إلى جانب صعود قوة تنظيم "داعش"، وفرض سيطرته على عدد من المناطق والمدن، وقيامه بجرائم إعدام ميدانية... في هذه السنة، خرج قسم كبير من الإعلام اللبناني عن طوره. وكان على رأسهم صحيفة "النهار". فتحت الجريدة صفحاتها وحساباتها الإلكترونية للتحريض المبتذل ضد السوريين، فنشرت مقالات عدة نذكر بعضاً منها: "صورة اليوم...من المظاهر المتزايدة جراء اللجوء السوري، جمل أمام قصر الاونيسكو" (14 مايو/ أيار 2014)، و"تكراراً، الأولاد السوريون قنبلة موقوتة" (9 ديسمبر/كانون الأول 2014)، فيديو بعنوان "هلّق مش وقتها" على قناتها على "يوتيوب" تستطلع فيها إحدى صحافيات النهار، اللبنانيين في ساحة ساسين عن رأيهم باللجوء السوري، ليتحول الفيديو إلى حفلة عنصرية من خارج أي سياق حدثي.
ضمن هذه السردية، جاء مقال "النهار" عن حوادث السير، الذي يبدو أساساً أنه أعدّ ليصوّب على اللاجئين السوريين "الآتين من بيئة ريفية أي غير متأقلمين مع الأعداد الكبيرة للسيارات ومع السرعة على الطرق كما لا يقدّرون كيفية التعاطي مع هكذا أمور". بدا الكلام متسقاً تماماً مع خطاب الصحيفة، وخطاب الإعلام اللبناني عموماً في تلك السنة. لكن كيف عاد هذا المقال للظهور نهاية شهر مايو/أيار 2019؟ عند البحث عن المصدر الأول للصورة، يتبيّن أنها نشرت عند شابة حلبية تدعى سارة سليمان يوم السبت الماضي (وإن كان التأكد من المصدر الأول شبه مستحيل)، واللافت أن سليمان أشارت إلى أن المقال من العام 2014. لكن المئات الذين اخذوا الصورة أو أعادوا نشرها لم يشيروا إلى تاريخ المقال.
Facebook Post |
طبعاً لا مشكلة بإعادة التذكير بالخطاب العنصري الذي حكم أداء الإعلام اللبناني يوم كان عراباً للتحريض على اللاجئين السوريين، قبل أن تتولى أحزاب سياسية ووزراء لبنانيون هذه المهمة، لتتمّ "مأسسة" العنصرية، وصياغتها في قوالب "قانونية" وبخلفيات تحريضية وفوقية وطائفية. بل على العكس، هي مهمة مطلوبة بشكل دوري عند تقييم أداء الإعلام اللبناني الذي يشكو العاملون فيه من الاهتراء، وتراجع عدد القراء.
المشكلة الحقيقية هي في التعامل مع المقال، في خلق حالة غضب من كلام قيل قبل 5 سنوات، والإيحاء بنشوب معركة حول القيم والمفاهيم. والواقع، أن ما حصل هو تماماً ما تقوم به مواقع التواصل الاجتماعي، "فيسبوك" بشكل خاص. اجتمع حول صورة المقال، ناشطون ومدونون تجمعهم اهتمامات مشتركة (مكافحة العنصرية في هذه الحالة). حولوا المقالة إلى ترند، وموضوع مناقشة آني، كأن الكلام قد قيل للتو. ثمّ ما لبثت باقي مواقع التواصل ان التحقت بالنقاش. أما وسائل الإعلام الرئيسية، من صحف ومواقع، فتناقل قسم كبير منها المقال بإدانة، من دون حتى القيام بالحدّ الأدنى من التدقيق الخبري. كأنّ الموقف الأخلاقي يعفي من الواجب المهني أو يتفوّق عليه في مخاطبة الرأي العام.
تقود مواقع التواصل، وسائل الإعلام. تقود الرأي العام، فتخلق حالات غضب، وحالات استنكار، وحالات تعاطف. بينما تفشل كل محاولات الشركات في "سيليكون فالي" بالسيطرة على ضخّ الأخبار الكاذبة أو الأخبار المنقوصة، كما هي الحال مع مقال "النهار". غضب بمفعول رجعيّ، في مكان وزمان مختلفين، وخاطئين، وضدّ "متّهم" بات دوره ثانوياً في حرب التحريض على اللاجئين في لبنان.
"فيسبوك" نفسه احتضن في اليومين الأخيرَين هجوماً عنيفاً (ومستحقاً عموماً) على قناة "العربية" بسبب وثائقي "النكبة"، فانتشر مقطع صغير مقتطع من الوثائقي يتطرق لما تقول القناة إنه عنف تعرض له اليهود على أيدي العرب والمسلمين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي في فلسطين. لم يشر أحد إلى أن الشريط قد عرض قبل عام مثلاً. فبدا كأن النقاش آني وحدثي. وبدا كأن الغضب الآن، وكأن الوثائقي عرض الآن. هي معلومة منقوصة، يتلقفها مستخدم مواقع التواصل، ليخلق حالات تفاعل في غير مكانها وغير زمانها.
في الولايات المتحدة، حيث يقول الموقع الأزرق، إنه يسعى جاهداً للحدّ من الأخبار الكاذبة على صفحاته، انتشر في اليومين الماضيين فيديو مفبرك وممنتج لرئيسة مجلس النواب الأميركي، الديمقراطية نانسي بيلوسي، عدّل لتظهر كأنها تلقي خطابها وهي في حالة سكر. انتشر الفيديو بشكل هستيري، وحتى عندما تبيّن أنه غير أصليّ، لم يحذفه الموقع.
الفضاء الذي يتكوّن فيه الرأي العام، بات مفتوحاً بشكل يجعل حصر أية معلومة والتدقيق فيها وبتاريخها وبلحظة صياغتها أمر معقد أو متعب، أمام دفق الصور والمعطيات والمعارك التي تخلق كل يوم على مواقع التواصل، وأمام هوس جمع المتابعين وحصد التفاعلات. هو الفضاء المناسب تماماً للحظة السياسية التي يعيشها العالم، بفوضاه السياسية والاجتماعية.