لم تستطع أم محمود صالح الانتظار أكثر. حاولت مقاومة الجوع. غلبته أكثر من مرة، لكن الجولة الأخيرة كانت لصالحه، وقضت قبل ساعات فقط من وصول المساعدات الأممية إلى مضايا السورية أوّل من أمس. وبلدة مضايا الواقعة في ريف دمشق، والخاضعة لسيطرة المعارضة، محاصرة منذ سبعة أشهر متواصلة من قبل قوات النظام وحزب الله الموالي له، الأمر الذي أدّى إلى مجاعة أهلها واضطرار أكثر من 40 ألف مدني إلى تناول أوراق الشجر لمقاومة جوع كافر.
مصطفى أحمد زين الرفاعي، مهندس لجأ إلى مضايا من الزبداني القريبة منها، لم يكن يدري أن الموت جوعاً وبرداً في انتظاره، في بلدة كانت مقصداً للسياح من العالم العربي، في حين كان الشعراء يتغنّون بطبيعتها الجميلة ومياهها العذبة وهوائها العليل.
وصلت معونات المنظمات الدولية مساء الإثنين 11 يناير/كانون الثاني، لكنها لم تكن على قدر تمنّي الجائعين في البلدة. وزّعت على العائلات سلة غذائية تضمّ 32 كيلوغراماً من الأرز والفاصولياء والبرغل، بالإضافة إلى الحليب والزيت وعلب الفول والملح والسكر. وعلى الرغم من أنها كانت متواضعة، إلا أن الفرحة بدت واضحة على الوجوه المنهكة، بحسب ما يؤكد مدير المستشفى الميداني في البلدة عامر برهان لـ "العربي الجديد". ويخبر أن "المحاصرين لم يتمكنوا من إخفاء فرحتهم ولو المؤقتة، إذ إن الغوث بلغهم بعد سبعة أشهر عجاف قطفت فيها أرواح بعضهم جوعاً".
ويشير برهان إلى أن كمية المساعدات المقدّمة من المنظمات الأممية لن تكفي العائلات أكثر من عشرين يوماً، مضيفاً أن "الحال سوف تعود إلى ما كانت عليه وربما أسوأ". ويطالب برهان بالعمل على "فك الحصار فوراً عن البلدة، وعدم الاكتفاء بحلول جزئية لا تسدّ جوعاً. هي مجرد حلول للإسعاف غير كافية لإنهاء المأساة المستمرة منذ أشهر عديدة، على الرغم من النداءات المتكررة التي أطلقها مدنيون لا حول لهم ولا قوة، وجدوا أنفسهم أسرى حصار مطبق".
تجدر الإشارة إلى أن الأمم المتحدة وعدت بإدخال كميات من الطحين غداً الخميس إلى مضايا، تقدّر بنحو 120 طناً، في مقابل ستين طناً لبلدتَي الفوعة وكفريا اللتَين يسيطر عليهما النظام في ريف إدلب شمال سورية.
"الناس فرحون جداً وبدأوا بالطبخ منذ الصباح"، بهذه الكلمات وصف الناشط عين جابر حال المحاصرين في بلدته مضايا صباح أمس الثلاثاء. وقال لـ "العربي الجديد": "كانت مشاعر الناس مختلطة في أثناء استلام المساعدات في ساعة متأخر من مساء الإثنين. ولا شك في أن السعادة غمرت هؤلاء المحاصرين الذين لم يجدوا لأيام طويلة ما يأكلونه، لتصبح بطونهم خاوية".
اقرأ أيضاً: ناشطات يؤسّسن مركزاً لدفع الجوع عن أهل مضايا
وكان المحاصرون قد انتظروا ساعات طويلة الإثنين، وصول المساعدات الأممية، وأنظارهم موجّهة إلى مدخل البلدة حيث ستدخل قوافل المساعدات. لكن آمالهم خابت إذ خلت القوافل من الألبان والأجبان والطحين والخضار.
أبو قيس من أهالي الزبداني المهجّرين إلى مضايا، يقول لـ "العربي الجديد" إن "السلة الغذائية اقتصرت على الحبوب"، معبّراً عن استيائه واستغرابه. لكنه يضيف: "على كل حال، جيّدة. تسدّ الجوع. أما الحل فهو بفك الحصار". أما أبو محمد، فلم يتمكّن من الصبر حتى بلوغه البيت بعد استلامه السلة الغذائية التي استلمها من كوادر الهيئة الإغاثية الموحدة في مضايا والزبداني. فتح علبة فول كما فعل كثيرون غيره، وبدأ يلتهمها. يُذكر أن مضايا كانت مضرب مثل في خيراتها وكرم أبنائها.
من جهته، يوضح الناشط عين الجابر أن "كميات الغذاء التي دخلت البلدة لا تكفي إلا لأيام. والحلّ هو في فكّ الحصار عن مضايا وكل المدن والبلدات السورية التي تعاني من حصار مطبق، إذ إن إدخال كميات محدودة من الطعام لن ينهي مأساة آلاف المحاصرين الذين يتعرضون لعقاب جماعي".
في هذا الإطار، لم تكتمل فرحة المحاصرين في مضايا بحسب عين الجابر، بوصول المساعدات، والسبب هو المرضى لا سيّما الأطفال منهم في المستشفى الميداني. هؤلاء يحتاجون إلى علاجات لأمراض مزمنة أو يعانون من سوء التغذية، في حين لا يملك المستشفى الإمكانات. يضيف: "ثمّة خشية حقيقية على حياتهم، بعدما رفضت القوات المحاصرة خروجهم من البلدة لتلقي العلاج، على الرغم من التحذيرات التي صدرت من الأمم المتحدة، والتي تقول باحتمال حصول وفيات في حال عدم تلقيهم عناية طبية فورية".
إلى ذلك، يقول ناشطون من داخل مضايا إن الخروج منها بات مشروطاً. على الشباب تسليم أنفسهم للحواجز الأمنية، في مقابل إخراج عائلاتهم. ويلفت هؤلاء إلى أن عشرات شباب الزبداني ومضايا سلموا أنفسهم لإخراج أهاليهم مما سموه "معتقل مضايا"، مضحّين بأنفسهم في سبيل نجاة عوائلهم من الموت جوعاً.
مضايا التي سدّت رمقها، تنتظر المجهول المقبل. فور انتهاء حصص المساعدات الغذائيّة المقدّمة، يبدأ فصل آخر من فصول الحصار الذي يقع ضحيّته أطفال ونساء ومسنون تُركوا وحدهم.
اقرأ أيضاً: مضايا تتمسك بالحياة