مصطفى إسماعيل.. تلاوة حتى مطلع الفجر

26 ديسمبر 2014
+ الخط -

المكان: قرية صغيرة في محافظة الغربية في دلتا مصر. الزمان: عام 1922. المناسبة: عزاء لأحد بكوات القرية يُدعى القصبي بك. صوّان كبير. الحاضرون متحمسّون في انتظار مجيء ضيف خاص لإحياء هذه الليلة، أحدهم فتى لم يكمل الثامنة عشر، يترقّب بتوتّرٍ، فهو أكثر العارفين بقيمة الضيف الآتي من العاصمة خصيصاً لهذه المناسبة، لم يكن أحد البكوات أو رجال الدولة، كان الشيخ المقرئ محمد رفعت (1882 - 1950).

اعتلى رفعت المنصّة وبدأ في القراءة. الشاب الصغير على مقربةٍ منه، يكاد لا يصدّق نفسه وهو بين يدي الرجل الذي طالما تمنّى لقاءه. انتهى الشيخ من وصلته الأولى، فمال على الشاب وقال له: قالوا لي إنك تحب التلاوة، وإن لك صوتاً جميلاً، ما رأيك أن تأخذ مكاني لتسمعني وتسمع الناس؟ المفاجأة ألجمت لسان الشاب، فبادره الشيخ رفعت بالسؤال: لم تقل لي اسمك يا بني! فقال له الشاب: اسمي مصطفى إسماعيل يا مولانا.

بدأ مصطفى إسماعيل (1905 - 26 كانون الأول/ ديسمبر 1978) في القراءة. لم تستجب له الناس؛ فكيف ذلك وقد احتل مكان الشيخ رفعت؟ الشاب نفسه كان متوتراً وبدا كما لو أنه يقرأ لرفعت وحده. شيئاً فشيئاً، انسجم أكثر مع القراءة، وبدأ ينتقل بخفة من آية لأخرى ومن مقام لآخر، حتى طرُبَ الحاضرون مطالبين إيّاه بالمزيد.

قضى إسماعيل ساعة ونصف في القراءة حتى أعطاه الشيخ إشارةً بأنِ اختم فقرتك. أنهى الشاب تلاوته، فسارع رفعت إلى تهنئته، وقال له: "اسمع يا بني، سأنصحك نصيحةً إذا عملت بها ستكون أعظم من قرأ القرآن في مصر. فأنت تملك أسلوباً فريداً، ولم تقلّد أحداً. لقد حباك الله بموهبة حلاوة الصوت والفن التلقائي الموسيقي من دون أن تدرس ذلك، وما زلتَ صغيراً في السن. لكن، ينقصك أن تثبت حفظك بأن تعيد قراءة القرآن على شيخ كبير".

هكذا، حمل إسماعيل في أولى خطواته على طريق التلاوة ثناء رفعت. وفعلاً، عمل بنصيحته، فالتحق بمسجد الأحمدي في عاصمة المحافظة طنطا ليعيد القراءة على مشايخه.

عشرون عاماً مرّت على لقاء رفعت، وصِيْت مصطفى إسماعيل وصوته يجوبان مصر، إذ قدّم للجمهور أسلوباً جديداً لم يسمعوه من المقرئين المشهورين في ذلك الوقت، مثل عبد الفتاح الشعشاعي وعلي محمود.

في عام 1943، كان إسماعيل قد توجه إلى حي الحسين ليشترك في "رابطة تضامن القرّاء". هناك، التقى بالشيخ محمد الصيفي، وأخبره إسماعيل برغبته في الانضمام إلى الرابطة، ولما تعرّف الصيفي إليه، قال له: "أنت إذاً من يتحدث عنه المشايخ والقرّاء هنا في مصر؟"، وطلب منه أن يتلو عليه بعض آيات من القرآن، فقرأ من سورة الفجر.

استعذب الصيفي صوت إسماعيل، وسأله أن يأتي إليه في اليوم التالي ليتيح له فرصة التعرف إلى كبار القرّاء. فلبّى الدعوة التي جاءت تزامناً مع نقل الإذاعة الرسمية لحفلٍ على الهواء من مسجد الحسين، كان المفترض أن يحييه الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، الذي سيتخلّف عن الحضور.

تعثُّر قدوم الشعشاعي أتاح لإسماعيل فرصةً ذهبية. دعاه الصيفي إلى الجلوس على الدكّة ليقرأ، ما سيُلاقي رفض المسؤولين؛ لأّنه ليس مُعتمداً في الإذاعة. إلّا أنّ الصيفي سيأخذ الأمر على عاتقه. قرأ إسماعيل ما يتسّر من سورة التحريم لمدة نصف ساعة. بعد انتهائه، احتشد حوله الجمهور ليسلّم عليه ويحتفي به. وبينما كان يستعد لمغادرة المسجد، طلب منه الحاضرون أن يستمر في القراءة. وفعلاً، بقي يتلو حتّى منتصف الليل.

 
مع زوجته..
لم يكن إسماعيل مجرد قارئ للقرآن ومجوّد له فحسب، ولم يقتصر أداؤه على ضبط أحكام التلاوة، بل كانت قراءته تجسيداً لفنّ قائمٍ بذاته؛ لذلك، وخلافاً لمعظم المقرئين الذين يضبطون الجملة اللحنية على الجملة القرآنية لتتناسب القفلات الموسيقية مع خواتيم الجمل والآيات، كان إسماعيل يفعل العكس؛ يضبط الجملة القرآنية على الجملة اللحنية.

فاللحن، بالنسبة إليه، هو الأصل في أدائه، حتى أن السمّيعة من غير الدراسين والمشغولين بالدراسة الموسيقية، على حدّ سواء، يميزون هذه الطريقة في وقفاته التي يؤدّيها متجاوزاً أحياناً موقعها في العبارة أو الكلمة. فكان الشيخ يفاجئ المستمع بوقوفه عند منتصف كلمة، ليمنح حرفَ مدّها طولَ مسافته الصوتية المُتّسقة مع المقام الذي يتلو عليه.

اللافت أيضاً في تلاوته، هو ذاك الانسجام بين المقام الموسيقي ومعنى الآيات نفسها. يحكى أن أم كلثوم كانت قد سمعت أحد المقرئين يتلو آية فيها كلمة سَقر على مقام "العجم"، فقالت: الله! سقر طلعت حلوة قوي. لكنها حين سمعتها من إسماعيل وقد قرأها على "الصّبا" قالت: هذه هي سقر التي نعرفها.

وبالرغم من إحكامه الموسيقي، وبراعته في الانتقالات المقامية، فإن إسماعيل لم يتلقّ أي تعليم موسيقي، بخلاف الشيخ محمد رفعت الذي أتقن عزف العود وكان مستمعاً جيداً للموسيقى الكلاسيكية، وعُرف عنه محبته لبيتهوفن وباخ. إسماعيل هو ابن أذنه الموسيقية، ابن فطرته. في أحد البرامج الإذاعية، قال مرّةً إنه تعرّف إلى أسماء المقامات من تعليقات مستمعيه.

ولفرادة ما قدمه إسماعيل، تحوّل من مقرئ استثنائي إلى مدرسة في التلاوة تأثر فيها مشايخ من الكبار مثل يوسف كامل البهتيمي ومصطفى غلوش. ووصل تأثر بعضهم فيه إلى تقليده في القراءة، مثل القارئ أحمد نعينع.

تأثير مصطفى إسماعيل يتجاوز زمنه، فرغم تراجع فن التلاوة وصعود الفتاوى التي تقول بحرمة خلط الموسيقى بكلام الله، إلا أنه ثمّة العشرات من القراء الشباب الطامحين إلى إحياء هذا الفن، ويتعلمون على يد واحد من البارزين في فن التلاوة في مصر، هو أحمد مصطفى كامل (1922) الذي يتقن طريقة إسماعيل ويعلمها لتلاميذه الذين عرفنا منهم ياسر الشرقاوي والقارئة الشابة سمية الديب.

المساهمون