الأخبار الحقيقية لمصر، لا تظهر في عناوين الصحف الأولى. ربما في الزوايا الجانبية للصفحات الداخلية، باب المنوعات في الصفحة الأخيرة، قسم الحوادث والجرائم، أو حتى في الإعلانات اليومية المبوبة.
الأسبوع الماضي، كان هناك خبر صغير عن "ميكروباص" يصطدم بطائرة في مطار القاهرة. بالنسبة لي، هذه النوعية من الأخبار والحوادث، مهمة جداً، مؤثرة، صادقة، وبالغة الدلالة.. فكيف يمكن وصف الحال في مصر الآن، بشكل أدق من كون أن هناك "ميكروباصاً"، اصطدم بطائرة؟!
"ميكروباص" مصر، ركابه في تصالح دائم مع كل شيء، حتى مع القائد، سائق المركبة، المثير للإزعاج، المتحكّم وحده في تحديد الأجرة دون قانون ملزم، قيادته متهورة، والموسيقى التي يفضّلها مزعجة وتسبّب الصداع. لكن كل هذا، في نظر السادة الركاب، عادي ومقبول، معتاد ومحتمل، فالبديل خطير، الطرد جزاء كل معترض، وسط تأييد وترحيب من جماهير الركاب الحاشدة.
يسير هذا الميكروباص، بركابه وسائقه، منذ عقود طويلة، في رحلة لا تنتهي، لم يصل إلى أي مكان، لم يتمكن راكب واحد من النزول في محطته التي يريدها. هناك مشكلة ما تعوق قدرته على السير بشكل طبيعي، لكن ركابه، وسائقه، مصرّون على رفض اقتراح الوقوف جانباً والنزول لمعرفة طبيعة الخلل الذي يصيب المركبة، لدى كل منهم أمل، بل ويقين، أن العطل الواضح لا يمكن أن يمنع الميكروباص من استكمال مسيرته، على الأقل بحيث يصل هو إلى محطته المنشودة، ويمكن للسائق بعد ذلك أن يعالج أعطاله في وقت لاحق.
كل شيء بالنسبة للركاب مقبول، السير عكس الاتجاه، تخطي السرعات المقررة، الجلوس خمسة في مقاعد صممت لأربعة، سلوك طرق جانبية غير مخصصة لسير "الميكروباص"، كل شيء يؤدي إلى الوصول، مقبول في نظرهم، حتى وإن كان الوصول نفسه لا يتحقق.
وكل إشارة، مجرد إشارة، للخلل، للبطء، لأهمية الالتزام بما هو قانوني، هي في نظرهم مؤامرة تستهدف تعطيل المسيرة، تضييع الوقت، منع القائد/ السائق من استكمال خطته العبقرية، التي لم تنجح أبداً.
لدى كلٍ منهم يقين أنه بعد الوصول المزعوم، سيتمكن في المرات القادمة من اختيار سائق آخر، يقود وفق خطة مختلفة. ما يعرفونه بالتدريج، أن سائقي "ميكروباصات" مصر، جاؤوا جميعاً من مكان واحد، لديهم خطة واحدة في القيادة، يستمعون إلى الأغاني ذاتها، ويعاملون الركاب بالطريقة نفسها.
الطائرة، في مكان آخر، كانت تهمّ بالإقلاع، لولا اصطدام "الميكروباص" بها، هي على عكسه تماماً. هناك ساعة محددة لانطلاق الرحلة، ساعة وصول متوقعة محسوبة بدقة. تعليمات أمان حفاظاً على حياة الركاب. ضرورة ربط الحزام، إغلاق الهواتف المحمولة، وهكذا.
كل راكب لديه خطة تخصّه، دفع ثمناً غالياً للحصول على مقعد في هذه الطائرة. لديه رغبة ما، حلم ما، يقوده للتحليق والسفر. لم يجد ما يريده تحديداً في شوارع القاهرة الممتلئة بـ"الميكروباصات" التي لا تصل إلى وجهتها أبداً.
وراكب الطائرة، جرّب ركوب الميكروباص سابقاً، أعلن اعتراضه، قال إن هناك خطة أخرى، كشف عن حقيقة أن ما يحدث لن يصل بالركاب إلى أي مكان. وجد نفسه خارج المركبة، فيما ظل الميكروباص مكانه لا يتحرك، وأخرج الركاب رؤوسهم من النوافذ، متهمينه بأنه وحده السبب في كل ما جرى. طالبهم بنسيان أمره، واستكمال رحلتهم دونه.. ساروا قليلاً، حتى اصطدموا بعدها بطائرته التي تحمل أحلامه!
الطائرة في المطار، مكانها الطبيعي المعتاد، في خطة تحليق وشيك تجاه المستقبل، لكن "ميكروباصاً" يحمل الماضي والحاضر، يرفض السماح لها بالإقلاع، يغيّر مسار رحلته، ويجتمع ركابه وقائده على هدف واحد، الانتقام من أحلام طائرة، خطط أخرى، فردية، بعد أن فقد راكب الطائرة القدرة سابقاً على صياغة حلم جماعي يضمّه مع ركاب "ميكروباص" الوطن.
* مصر