10 ابريل 2019
مصر على عرش البصّاصين
لم يعد أمن مصر مسألة داخلية فقط، على ضوء التشابك في العلاقات الإقليمية، وتزعزع الاستقرار في المنطقة، نتيجة للصراعات الجديدة والقديمة. وهذه التسريبات بين ضابط في المخابرات الحربية وإعلاميين وفنانات، والتي ذاعت أخيرا، لا تتعلق بالداخل المصري وحده، وإنما امتد شررها إلى بعض النقاط الملتهبة في الإقليم، خصوصا أنّها تناولت بشكل أساسي قضية حيوية، وهي ترويج القبول بالقدس عاصمة لإسرائيل. وفي جو كهذا، عادة ما تنزع الأحداث الإعلامية إلى احتلال مكان الأفعال الحقيقية، وهي جزءٌ من حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر، نتيجة أسلوب الحكم الحالي، والذي هو مزيج من الفاشستية المتهوّرة والديماغوجية الممنهجة.
تدخلات أجهزة الأمن والمخابرات في شؤون السياسة والإعلام وغيرها، وتدجين المؤسسات لترويج الأكاذيب، أمرٌ معتاد في بلدان كثيرة محكومة بهذه الأجهزة. وفي مصر، يأخذنا هذا إلى أواخر فترة المماليك، وقد جاء بشأنها جمال الغيطاني على فكرة التلصص، في روايته "الزيني بركات"، والتي أصبحت مسلسلاً تلفزيونيا، يتذكره الناس كلما ينبثق عصرٌ ظلامي تسود فيه الدولة البوليسية، وتستوي فيه مصر على عرش البصاصين. وقد فاقت المخابرات في ظل نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي ذلك كله بأن جلست على ذروة سنام الحكم، كيف لا وقد كان هو آخر مدير لها في عهد حسني مبارك منذ 2010، وطوال فترة الثورة المصرية حتى 12 أغسطس/ آب 2012، ليجعله الرئيس المنتخب، محمد مرسي، وزيراً للدفاع، ثم ينقلب على الرئيس في 3 يوليو/ تموز 2013. ولا يُستغرب بعد ذلك الولاء الذي تسوقه المخابرات الحربية للسيسي في مصر، المتحولة من حكم الشرطة المدنية والمخابرات العامة إلى مصر الأخرى، المحكومة بالشرطة العسكرية والمخابرات الحربية.
لم يجد السيسي غضاضة في إحداث تغيير كبير في جهاز المخابرات العامة، لاتسام حكمه
المنزوع من مهد الديمقراطية بقدر كبير من القلق، بحيث لا يمكن التنبؤ بتبعاته. وكان من المرجح أن تظهر هذه النتائج في فترات مرتقبة من التغيير السياسي، وليس بهذه السرعة. والواقع أنّ حدثاً مثل تغيير مدير المخابرات من الممكن أن يؤثر بشكل كبير على النتائج في السياقات السياسية المتداعية، في ظل القيود المؤسسية ضعيفة البنية. يدرك السيسي أنّ المشكلة تنبع منه، وهكذا وبإلقائه بمسؤولية النكسات على عدم كفاءة قادة الأجهزة، فإنّه يوصلها إلى حالةٍ من عدم الثقة المتزايدة، مركّزاً طوال الوقت بين يديه سلطات تتناقص عنده القدرة على ممارستها.
عملت ظروف الأزمة على إرخاء قيود متراكمة يفرضها الوضع الأمني، وساعد على ذلك الجمود البيروقراطي الذي يكبح القدرة على العمل عادة في النظام السياسي. وحتى لو ادّعى السيسي الرضا عن الذات، فإنّه الآن يحسد أنور السادات، ومن قبله جمال عبد الناصر، على ظروف الأزمة التي عايشاها مع أجهزتهما الأمنية. مهّد هذا الوقت العصيب الساحة أمام السيسي لأن يكتسب بعض الجرأة، ولكن لا يُتوقع أن تكون الأنسب في التصدي للأزمات التي تتسم بها مثل هذه الفترة.
لم تقف المذابح الإدارية بحقّ كثيرين من منتسبي المخابرات العامة، منذ كان السيسي وزيراً للدفاع، وقبلها ما بين إحالات للتقاعد، ونقل عاملين في المخابرات وتوزيعهم على عدد من الوزارات، فبحسب أنباء نشرتها مجلة فرنسية أن خلافات بين جهازي المخابرات العامة والحربية تسبب بها تداخل الاختصاصات في محاربة الإرهاب في شمال سيناء. والمعروف أنّ المخابرات العامة أكثر المؤسسات المصرية عداء لإسرائيل، وقد كُلّفت إبان عهد مبارك بإدارة ملف غزة، كما ظل جهاز المخابرات الحربية، منذ معاهدة السلام، الهدف الأول لإسرائيل الذي عبرت من خلاله استخباراتها إلى إقامة علاقات مع القوات المسلحة المصرية، أربعة عقود.
سلوك الرئاسة الناتج عن عدم رضاها عن أداء المخابرات العامة، وسياستها بتوجيه تحذير
علني ومشدّد من استمرار الأوضاع الحالية، تشبه إلى حد كبير سياسة التدمير الذاتي التي تتجاوز إحكام السيطرة على الجهازين معاً، ودفعهما تدريجياً إلى تدمير نفسيهما. فبعد سنوات من الصراع بين جهازي المخابرات العامة والمخابرات الحربية، باتت مؤكدة نهاية التنافس لصالح الأقرب إلى الرئيس السيسي. فما ظهر الآن بعد انجلاء خيوط الدخان هو تشجيع علني لاستمرارية الصراعات، والتناحر بين الذراعين الأهم للأمن القومي المصري. وعلى الرغم من انتصار المخابرات الحربية على العامة، وإحكام سيطرتها على الأوضاع، فإنّ أجواء تنمّر الأولى، وإشاعة الخوف والرعب بين جنبات الثانية، يدلُّ على استخدام أساليب التردي الممنهج، والتي تعمل على تدمير الطاقات والقدرات الخاصة بهذين الجهازين.
وإذا كانت مهام الرئيس مرتبطةً على نحو متزايد بإدارة كل جانب من جوانب الحياة في البلد، إلّا أنّ السيسي يحصر دوره السياسي في الشؤون الأمنية، تاركاً معظم المسائل الخاصة بالسياسة الداخلية لحكومته. والحقيقة، على أية حال، أنّه فيما يكون الرئيس حريصاً على امتيازاته في الساحة الأمنية بشكلٍ خاص، لا يتردد أبدا في التدخل في شؤون سياسية تدخلاً كارثياً. في الأنظمة العسكرية عادةً تُناط السلطة بعصبةٍ من كبار الضباط، ويتولى أحدهم مهام رئيس الحكومة، أما في مصر، فإنّ السيسي يذهب إلى أسوأ من نموذج القيادة الجماعية التي كانت تُمارس في الدول الشيوعية، فهنا يتم باستمرار هزيمة النزعات الموازية باتجاه حكم الفرد الواحد، وفق نموذج ستالين أو ماو تسي تونغ.
تدخلات أجهزة الأمن والمخابرات في شؤون السياسة والإعلام وغيرها، وتدجين المؤسسات لترويج الأكاذيب، أمرٌ معتاد في بلدان كثيرة محكومة بهذه الأجهزة. وفي مصر، يأخذنا هذا إلى أواخر فترة المماليك، وقد جاء بشأنها جمال الغيطاني على فكرة التلصص، في روايته "الزيني بركات"، والتي أصبحت مسلسلاً تلفزيونيا، يتذكره الناس كلما ينبثق عصرٌ ظلامي تسود فيه الدولة البوليسية، وتستوي فيه مصر على عرش البصاصين. وقد فاقت المخابرات في ظل نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي ذلك كله بأن جلست على ذروة سنام الحكم، كيف لا وقد كان هو آخر مدير لها في عهد حسني مبارك منذ 2010، وطوال فترة الثورة المصرية حتى 12 أغسطس/ آب 2012، ليجعله الرئيس المنتخب، محمد مرسي، وزيراً للدفاع، ثم ينقلب على الرئيس في 3 يوليو/ تموز 2013. ولا يُستغرب بعد ذلك الولاء الذي تسوقه المخابرات الحربية للسيسي في مصر، المتحولة من حكم الشرطة المدنية والمخابرات العامة إلى مصر الأخرى، المحكومة بالشرطة العسكرية والمخابرات الحربية.
لم يجد السيسي غضاضة في إحداث تغيير كبير في جهاز المخابرات العامة، لاتسام حكمه
عملت ظروف الأزمة على إرخاء قيود متراكمة يفرضها الوضع الأمني، وساعد على ذلك الجمود البيروقراطي الذي يكبح القدرة على العمل عادة في النظام السياسي. وحتى لو ادّعى السيسي الرضا عن الذات، فإنّه الآن يحسد أنور السادات، ومن قبله جمال عبد الناصر، على ظروف الأزمة التي عايشاها مع أجهزتهما الأمنية. مهّد هذا الوقت العصيب الساحة أمام السيسي لأن يكتسب بعض الجرأة، ولكن لا يُتوقع أن تكون الأنسب في التصدي للأزمات التي تتسم بها مثل هذه الفترة.
لم تقف المذابح الإدارية بحقّ كثيرين من منتسبي المخابرات العامة، منذ كان السيسي وزيراً للدفاع، وقبلها ما بين إحالات للتقاعد، ونقل عاملين في المخابرات وتوزيعهم على عدد من الوزارات، فبحسب أنباء نشرتها مجلة فرنسية أن خلافات بين جهازي المخابرات العامة والحربية تسبب بها تداخل الاختصاصات في محاربة الإرهاب في شمال سيناء. والمعروف أنّ المخابرات العامة أكثر المؤسسات المصرية عداء لإسرائيل، وقد كُلّفت إبان عهد مبارك بإدارة ملف غزة، كما ظل جهاز المخابرات الحربية، منذ معاهدة السلام، الهدف الأول لإسرائيل الذي عبرت من خلاله استخباراتها إلى إقامة علاقات مع القوات المسلحة المصرية، أربعة عقود.
سلوك الرئاسة الناتج عن عدم رضاها عن أداء المخابرات العامة، وسياستها بتوجيه تحذير
وإذا كانت مهام الرئيس مرتبطةً على نحو متزايد بإدارة كل جانب من جوانب الحياة في البلد، إلّا أنّ السيسي يحصر دوره السياسي في الشؤون الأمنية، تاركاً معظم المسائل الخاصة بالسياسة الداخلية لحكومته. والحقيقة، على أية حال، أنّه فيما يكون الرئيس حريصاً على امتيازاته في الساحة الأمنية بشكلٍ خاص، لا يتردد أبدا في التدخل في شؤون سياسية تدخلاً كارثياً. في الأنظمة العسكرية عادةً تُناط السلطة بعصبةٍ من كبار الضباط، ويتولى أحدهم مهام رئيس الحكومة، أما في مصر، فإنّ السيسي يذهب إلى أسوأ من نموذج القيادة الجماعية التي كانت تُمارس في الدول الشيوعية، فهنا يتم باستمرار هزيمة النزعات الموازية باتجاه حكم الفرد الواحد، وفق نموذج ستالين أو ماو تسي تونغ.