انتقل الصراع الخفي الذي يدور رحاه منذ سنوات عدة بين مشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف في مصر، حول أحقية كل منهما في إصدار الفتاوى، إلى قاعات مجلس النواب، على وقع الخلافات التي شهدتها لجنة الشؤون الدينية في البرلمان، على مدى الأشهر الأخيرة، أثناء نظرها مشروع قانون تنظيم الفتوى العامة، المقدم من أمين سر اللجنة، عمر حمروش، وأكثر من 60 نائباً آخرين.
وتوافقت اللجنة البرلمانية، بعد فترة تجاوزت العام من الجدال حول أحقية كل من الأزهر والأوقاف في الفتوى، إلى إنشاء إدارة للفتوى العامة بوزارة الأوقاف في مشروع القانون. وهو ما اعترضت عليه هيئة كبار العلماء في الأزهر بشكل رسمي، غير أن اللجنة تمسكت بموقفها، كون التشريع اختصّ الإدارة بإصدار الفتاوى العامة، باعتبار أنها "جهة تنفيذية"، وليست علمية كالأزهر والإفتاء.
واستندت اللجنة الدينية في البرلمان إلى تقدم وزارة الأوقاف بمستندات تثبت وجود إدارة للفتوى في هيكل الوزارة منذ عام 1982، وأن أئمة المساجد لهم اختصاص بالفتوى، إذ كشف رئيس اللجنة، أسامة العبد، أخيراً، أن "اللجنة تعد حالياً تقريرها النهائي بشأن مشروع القانون، تمهيداً لإرساله إلى هيئة مكتب البرلمان، لمناقشته في الجلسات العامة خلال الأسابيع المقبلة".
وحظر مشروع القانون المقترح تنظيم الفتوى العامة على أي جهة بأية صورة، إلا إذا كانت صادرة من هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، أو دار الإفتاء المصرية، أو مجمع البحوث الإسلامية، أو الإدارة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف، ومن هو مرخص له بذلك من الجهات المذكورة، ووفقاً للإجراءات التي تحددها اللائحة التنفيذية للقانون.
وحسب مصادر مطلعة، فإن قيادات مشيخة الأزهر ترى أن وزير الأوقاف، محمد مختار جمعة، الذي جاء إلى منصبه في أعقاب انقلاب يوليو/تموز عام 2013، ولم يغادره منذ حينها، رغم تورّطه في العديد من قضايا الفساد المالي، يسعى بكل الطرق إلى إزاحة شيخ الأزهر، الإمام أحمد الطيب، من منصبه، ليتولى المنصب مكانه، استغلالاً للخلاف الدائر بين الطيب والرئيس عبد الفتاح السيسي.
ووجّه السيسي، أكثر من مرة، إلى مسألة تجديد الخطاب الديني، مع تلميحات بأن الأزهر أصبح غير قادر على الإناطة بهذا الدور، وهو ما أعطى الدور الأخضر لأعضاء في البرلمان للتقدم باقتراحات تشريعية من شأنها تقليص دور الأزهر وشيخه على الساحة الدينية، وذلك بهدف إتاحة مساحة أكبر لوزارة الأوقاف، ما أجج الصراع بين المؤسستين الدينيتين، والذي بات "كالجمر تحت الرماد"، وفقاً للمصادر.
ويرى بعض نواب البرلمان أن ما يحدث هو صراع بين الدولة و"المشيخة"، إذ يتردد أن هناك جهات داخل الدولة لا تريد بقاء الطيب في منصبه المحصّن ضد العزل دستورياً، مشيرين إلى تمتّع الأوقاف بحماية رئاسية. وهو ما سمح للوزارة بالتوسع في الإفتاء في المساجد الكبرى، وفي الأماكن العامة، كما حدث من قبل في محطات مترو الأنفاق، وأمام مختلف وسائل الإعلام.
وفي 25 يونيو/حزيران الماضي، أرسلت هيئة كبار العلماء في الأزهر بعض التعديلات على القانون المقترح، أبرزها رفض إنشاء إدارة للفتوى في وزارة الأوقاف، ومنحها أي اختصاص متعلق بالفتوى العامة، ما أثار غضب الأخيرة، التي تمسّكت بوجود الإدارة، ورضخت له اللجنة الدينية داخل البرلمان في نهاية الأمر، إلا أن الكلمة الفصل ستكون لأعضاء البرلمان مجتمعين في الجلسة العامة.
ونص اقتراح هيئة كبار العلماء على أنه "يُحظر التصدّي للفتوى الشرعية إلا من خلال الهيئات المعنية بالفتوى في الأزهر الشريف، أو دار الإفتاء المصرية، أو من يُرخّص له بذلك من أي منهما، ويرجّح رأى هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف حال تعارض الفتوى بين الجهات المذكورة، وفقاً للإجراءات والشروط التي تحدّدها اللائحة التنفيذية للقانون".
في المقابل، رد رئيس القطاع الديني في وزارة الأوقاف، الشيخ جابر طايع، على اقتراح كبار العلماء، قائلاً أمام اللجنة: "أئمة المساجد من الأوقاف، والوزارة أقدم من مجمع البحوث الإسلامية، وهم صوت الأزهر الحقيقي في الشارع"، متابعاً "نحن في الميدان، وليس مَن يجلسون في المكاتب المكيفة، والفتوى العامة حق أصيل لإمام المسجد، ولا نفرّط فيه، وإذا نحن فرطنا سنصطدم برفض قرابة 60 ألف إمام لذلك".
وأفاد أحد أعضاء البرلمان بأنه "بموجب التشريع الجديد، لا يجوز لأي شخص أو جهة، التصدّي للفتوى سوى هيئة كبار العلماء في الأزهر، ودار الإفتاء، ومجمع البحوث الإسلامية، والإدارة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف، إلا أن الأخيرة لا تتمتع باستقلال تام عن الدولة، على عكس الأزهر، فهو هيئة مستقلة ذاتياً عن الدولة، ولا علاقة لها من قريب أو من بعيد بهيكلية المؤسسة الدينية الأعرق".
وقال أحد النواب، إن "الكثير من الفتاوى، تحديداً التي تهم الدولة، يجب أن تكون بعيدة عن السياسة، أما الآن فالكثير من الفتاوى أصبحت مسيّسة، وهو أمر خطير"، مضيفاً أنه "مع تمسُّك الأزهريين باستقلالهم، وعدم السماح لأحد مهما كان بفرض آرائه وتوجهاته عليهم، كان لزاماً على الدولة ألا تترك لهم الانفراد بحق الفتوى".
وترفض مشيخة الأزهر بشكل قطعي السماح لأئمة الأوقاف بممارسة حق الفتوى، باعتبار أنهم غير مؤهلين علمياً وفقهياً، وأنها المؤسسة الدينية صاحبة الولاية في هذا الشأن. في وقت يرى فيه مراقبون أن الصراع بين الأزهر والأوقاف هو صراع سياسي، وليس دينياً، نظراً لأن وزير الأوقاف يحظى برضا القيادة السياسية، حتى إنه أفلت من ستة تغييرات وزارية سابقة، وجُدد له للمرة السابعة في التغيير الأخير.
ووصل الصراع بين المؤسستين الدينيتين إلى تدشين "غروبات" على مواقع التواصل الاجتماعي، وتبادل الاتهامات بين أئمة الأوقاف والأزهريين، وتوجيه الانتقادات لكلا القيادات، وهو ما يُنذر باشتعال الصراع أثناء نظر القانون أمام الاجتماع العام للبرلمان.
سبق وأصدرت وزارة الأوقاف المصرية، بالتعاون مع المجلس الأعلى للإعلام، قائمة بالعلماء المصرح لهم بالفتوى في وسائل الإعلام والبرامج الدينية، تصل إلى 136 اسماً، استحوذت الوزارة على نحو 70 في المائة من تلك الأسماء، وتركت البقية لمشايخ الأزهر. وهو ما دل على تفوّق وزارة الأوقاف على المشيخة، ورضا النظام عنها، والمضي قدماً في اتجاه تقليص دور الأزهر.
وتواجه مصر يومياً المئات من الفتاوى، ووصل البعض إلى تسمية بعض الفتاوى بـ"الشاذة"، كونها تسبب بلبلة كبيرة في الشارع المصري. وهو ما حدث خلال الأسابيع الأخيرة، والتي من بينها: "هل هناك جماعٌ ومعاشرة جنسية في الجنة من عدمه؟". وهي القضية التي أحدثت حالة جدل واسع من لا شيء، فضلاً عن فتوى "مساواة الرجل بالمرأة في الميراث" التي أثارت حالة من السخط في الشارع المصري.
ومن بين الفتاوى المثيرة للجدل كذلك: "إجازة نكاح الحيوانات والزوجة المتوفاة، وإباحة تصوير الزوجين نفسيهما خلال ممارسة الجماع بينهما"، والتي أفردت لها القنوات الإعلامية المحلية ساعات من البث لمناقشتها، وعرض الرؤى حيالها، وذلك بغرض إشغال المصريين بهذه الفتاوى بعيداً عن المشكلات والأزمات التي يتعرضون لها يومياً، من جراء تصاعد الأسعار الذي طاول كافة السلع والخدمات.