مصر.. حديث المصالحة بين الحقيقة والأمنيات

16 مايو 2018
+ الخط -
قبل حوالي عامين، كنت أسير في حراسة مشدّدة في طرقات السجن الكئيبة، متجها إلى مستشفى السجن، وكان يسير بالقرب مني في الموكب نفسه قيادي كبير محسوب على التيار الإسلامي وتحالف دعم الشرعية، وإن لم يكن من جماعة الإخوان المسلمين. كان الموكب يتكون من ضابط مباحث السجن وعدة مخبرين وأمناء شرطة يسيرون حولنا وبيننا؛ بهدف منعنا من الحديث لبعضنا بعضا في أثناء السير إلى المستشفى، وكذلك منعنا من التواصل مع أي سجين آخر قد نقابله في أثناء العرض على الطبيب في مستشفى السجن.
في أثناء انشغال الحراس بالسلامات والتحية مع آخرين، بادرني الشيخ الكبير قائلا: أنتم كان لكم اسم معروف بين الدوائر السياسية والإعلامية الغربية، فهل هناك أي تطورات على الساحة الدولية؟ هل لديك أي أخبار عن أي مستجدات؟ أجبته بالنفي. الغرب لا يهتم إلا بالمصلحة، ومصلحته الآن مع عبد الفتاح السيسي الذي استطاع، ببراعةٍ، تسويق نفسه إليهم على أنه حائط الصد أمام موجات المهاجرين المتتالية نحو أوروبا، أنا أو الفوضى. إنها المعادلة التي كان نظام حسني مبارك يعتمد عليها ولا تزال سارية. بالإضافة إلى أن قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط لم تعد ذات أهمية أو أولوية في دوائر صنع القرار الغربية، لا يتحدّث عن الوضع في مصر إلا منظمات دولية غير حكومية، وربما بضعة أفراد ونشطاء وصحافيين غربيين بشكل مستقل، نوعا من الالتزام الأخلاقي، لكنهم أقلية.
سألته عن التفاوض مع السلطة، ما إذا هناك من يتفاوض هذه الأيام كما نسمع كل فترة من 
أخبار مشوّشة. أجابني بالنفي، قائلا: للأسف، فشل الإخوان المسلمون في التفاوض، كما فشلوا من قبل في إدارة البلاد، كما أن مَن الذي يفاوض منهم؟ ما تبقى من إخوان الداخل أم إخوان الخارج أم القيادات التي في السجن؟
تذكّرت هذا الحوار السريع، وأنا أطالع عن الجدل الشديد والمقالات النارية والتحليلات التي تتكرّر كل بضعة شهور بشأن ما يطلق عليها المصالحة، فما أن تصدر مبادرة للمصالحة من أكاديمي أو سياسي، حتى تنهال عليه اللعنات من عدة جهات.
الأولى هي الأصوات المحسوبة على جماعة الإخوان والتيار الإسلامي، فيبدأ السباب والتخوين لصاحب المبادرة، معلنين أنه لا مصالحة على الدم، ولا تفريط ولا تهاون، ولا تراجع ولا استسلام، ولا تنازل عن مطلب عودة الرئيس المعزول محمد مرسي (تعتبر ولايته انتهت في 30 يونيو/ حزيران 2016)، ثم إزالة كل ما ترتب على انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013.
الأصوات الأكثر حدة وعنفا هي المحسوبة على نظام الحكم الحالي، والتي تعتبر مجرد الحديث عن مصالحة أو عدالة انتقالية أو تقليل الاحتقان مؤامرة خارجية، وأوامر من الغرب المتآمر. إنها أصوات الأجهزة الأمنية التي تحكم مصر، وترى أنه لا مصالحة مع الإرهابيين، ولا وجود لأزمةٍ من الأساس، حتى يفكر أحد في مصالحة، فالغرب هو الذي يحتاج للسيسي الآن، ولا مشكلة لدى نظام الحكم في ازدحام السجون، أو إضافة مساجين جدد، ولا توجد حاجة لاحترام حقوق الإنسان، فالحرب على الإرهاب هي الأولوية، ولتذهب حقوق الإنسان إلى الجحيم. ولا داعي للإفراج عمّن لم يتورّط في عنف، ولا داعي لتقليل الاحتقان، فلا يوجد احتقان من الأساس. أما الأصوات الغاضبة والرافضة، فيمكن اعتقالهم في ثوانٍ معدودة، إن شكلوا أي تهديد. الأمن مستتب، والقافلة تسير، ولا داعي للانتباه لأي نباح.
هناك صوت ثالث خافت، قد يكون لا وزن له، وهو صوت بعض المحسوبين على التيار المدني الذين تنتابهم حالةٌ من الذعر، عندما تأتي سيرة المصالحة أو تتناثر شائعات هنا وهناك، فلدى هؤلاء دائما هاجس أن يتصالح العسكر/ النظام مع الإخوان المسلمين على حساب الآخرين، أو ما يطلق عليه التيار المدني، مثلما حدث بشكل ما في انقلاب يوليو 1952 الذي باركه "الإخوان"، وساندوه بقوة، وأدّى إلى حل كل الأحزاب بعد ذلك، بمباركة "الإخوان" أيضا، قبل أن يتم الانقلاب على الجميع في 1954. وكما حدث أيضا في بداية السبعينيات، عندما أخرج السادات "الإخوان" من السجون، واستعان بهم ضد اليسار والناصريين. وكما حدث أيضا بعد يناير/ كانون الثاني 2011، عندما تحالفوا مع العسكر، على الرغم من كل ما حدث قبل ذلك، وعلى الرغم من الصراع الدموي المرير. وبارك "الإخوان" الانتهاكات والمذابح التي تم ارتكابها في صفوف القوى الثورية والشبابية.
لا يرى النظام حاجة للتنازلات، ولدى "الإخوان" قناعة بأنها محنة ستمر، كما مرت محن 
كثيرة خرجوا منها منتصرين. وهناك أصوات ضعيفة متشككة ومتخلفة. وفي واقع الأمر، لا يوجد طرح فعلي أو واقعي حتى الآن، فكل ما أثير أخيرا، أو يثار كل فترة عن مصالحة أو قنوات اتصال سرية بين "الإخوان" والنظام هي مجرّد اجتهادات وتكهنات، إنها مجرد أمان وأطروحات، مبادرات رجل الأعمال الإخواني يوسف ندا، أو الإخواني المنشق كمال الهلباوي، أو الأطروحات الأكاديمية لحسن نافعة، لا تتعدّى المحاولات والنصائح، ولكن ليس هناك شيء واقعي ملموس، وليس هناك حوار فعلي، ولا رغبة في الحوار، خصوصا عند الطرف الأقوى.
وفي حقيقة الأمر، لن تنهض مصر إذا استمر هذا الصراع، كيف يحدث تقدم ونهضة إذا كان هذا العدد الضخم من الشباب والطاقات في السجون. وإذا كان هناك هذا العدد الضخم من العقول والكفاءات والتخصصات في المنفى، كيف تتقدّم أمةٌ، وفيها كل هذا الغضب المكتوم والكراهية المتغلغلة، وتصيّد كل طرف أخطاء الآخر؟ وأين ذهبت فقرة العدالة الانتقالية وجبر الضرر مما كان يطلق عليها خريطة الطريق؟ ولماذا أصبحت كلمة سيئة السمعة، على الرغم من أنها جوهر التحضر الحقيقي، وما الذي يخيف القائمين على نظام الحكم من العدالة الانتقالية؟ وكيف يمكن الوصول إلى اتفاق يحقق الحد الأدنى من مصالح جميع الأطراف بدون خوفٍ من الانتقام والتنكيل؟
ومتى نصل إلى لحظةٍ يدركون فيها أنه لا بد من حل لإنقاذ البلد؟ وأن ما يحدث الآن ويطلق عليها "أولوية الحفاظ على الدولة" مجرّد "ترقيع" لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان، فالنار لا تزال تحت الرماد، وعلينا أن نبدأ حيث انتهى الآخرون في تجارب العدالة الانتقالية، وحل الصراعات بطرق سلمية.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017