مصر بين سلطتي يوليو ويونيو

31 يوليو 2016
+ الخط -
حين تغيب الرؤية الموضوعية، ويغلب القياس الشكلي، يتفق أصحاب الآراء المتناقضة في أطروحاتهم، هذه ما تكرّر مع ذكرى ثورة 23 يوليو، والتي يجتمع فيها أنصار النظام المصري ومعارضوه في طرق تناولهم لها، فالمعارضون يصوّرون نظام يونيو على أنه شبيه بنظام يوليو، والمؤيدون كذلك. يسقط الجانبان أفكاره على الواقع، ليثبت صحة مواقفه، من دون أن يرى مدى التطابق والاختلاف، إنه منهجٌ يستدعي الماضي، لتحليل الواقع وإثبات أن الأمس كاليوم متطابقان.
يستند معارضو النظام إلى التشابه في شكل السلطة "العسكري"، ويعتبر بعضهم أن حكم الملكية أفضل من نظام يوليو. وهنا، يتم تجاهل مضامين السلطتين وتوجهاتهما. يستهدف المؤيدون إلقاء مزايا "يوليو" على "سلطة يونيو"، فيخدعون الشعب. ويلقي المعارضون عيوب "سلطة يوليو 1952" على "سلطة يونيو"، فينكرون جزءاً من برنامج الثورة التي رفعتها الجماهير في يناير. ويستخدم كلا الفريقين الطريقة نفسها لإثبات موقفين متناقضين كتناقض توجهات سلطة 1952 مع سلطة عبد الفتاح السيسى والتحالف الطبقي الذي يحكم مصر الآن.
تم تناول ذكرى ثورة 23 يوليو بالتفاخر والاحتفاء الزائد أو باعتبارها سبباً لكل الكوارث المعاشة الآن في مصر، غلب على ما نشر ما أحكام يغلفها الهوى ومصدرها الأساسي إبراز كل فريق أن مواقفه صحيحة. ولا تخدم هذه القراءة المتشنجة الناصريين، حين يشبهون نظام السيسى بنظام يوليو، وكذلك ليست مفيدةً للمعارضين. لسببين، الأول أن الأزمات التي ينتجها النظام تكفي لتكون أرضية للمعارضة، وطرح البدائل. أما الثاني فمرتبط بتناقض مجموعات المصالح الحاكمة مع نظام يوليو 1952، في جوانب كثيرة، خصوصا في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية.
وانطلاقاً من تناقض نظام السيسى مع "يوليو"، فان استمرار الهجوم على "نظام يوليو" وتصوير السيسي شبيهاً بعبد الناصر، يفقد المعارضون جزءاً مهماً من موضوعية المعارضة، كما تعطى هذه الممارسات والتقييم الخاطئ صورةً للمعارضة بأن صراعها مع السلطة يتوقّف عند حدود شكل السلطة، لا برنامجها وسياساتها التي تودّ تطبيقها، ويشير هذا الطرح إلى إحدى أزمات عديدٍ من قوى المعارضة المصرية الآن، بل واحد من أمراضها المزمنة التي لا تتوقف عند حدود إطلاق الشعارات، وعدم القدرة على ابتداع برامج جادة وحقيقية، تمثل بدائل للسلطات الحاكمة، ويتمحور خطابها حول شكل السلطة السياسية، إضافة إلى إحداث قطيعةٍ مع الماضي، بما فيه من منجزاتٍ وبرامج تتفق مع برنامج الثورة ومطالب التغيير.
انطلقت حركة الجيش في يوليو/ تموز 1952 مستفيدةً من الغضب الشعبي ضد نظام الحكم
 الملكي، واستفادت من نقاط متنوعة محل اتفاق من الحركة الوطنية المصرية منذ 1919، وخصوصاً في ما تعلق بالاستقلال الوطني وإنهاء الاحتلال والحكم الملكي، وكذلك قامت بإصلاحاتٍ اجتماعيةٍ لمعالجة أزمات المجتمع المصري الذي غرق في الفساد والفقر.
واستطاعت سلطة 1952، عبر تبنيها نقاطاً من برنامج الحركة الوطنية المصرية، أن تكتسب شعبيةً كبيرة. وحين سارت على درب تحقيق الاستقلال الوطني، أثبتت وطنيتها، ثم دعمت شعبيتها، مرة أخرى، بانحيازها للشعب وفقرائه، فدعمت الإنتاج الزراعي والصناعي، وشيّدت المصانع، فاستوعبت العمالة، ووفرت الخدمات لمواطنيها، وأمنت مصادر الطاقة، فبنت السد العالي. وبعد توليها السلطة بشهرين، شرعت قانون الاصلاح الزراعي، وواجهت الإقطاع، فنزعت ملكية الباشوات الذين استولوا على الأراضي، حين كان يمتلك 1% من الشعب ما يقارب 30% من الأراضي الزراعية، بينما لا تتعدى حيازة 90% من الفلاحين خمسة أفدنة. وبعدها حدّدت الملكية الزراعية على مرحلتين، وقامت بتوزيع الأراضى على فقراء المزارعين، وشرعت أيضا قوانين للعمل عادلة، وأيضا قوانين للتأمين الصحي والاجتماعي، وأممت القناة وممتلكات دول العدوان 1956 الثلاثي، ومصّرت البنوك، وأنشأت أسطولاً من المصانع التي ما زال كثير منها قائماً، وأفلت من قبضة من باعوا مصر ومصانعها.
هل يمكن، بعد ذلك كله، أن نقارن بين سلطة فلول الإقطاع العائد للحكم ورجال الأعمال الفسدة المسعورين ومن واجه الإقطاع. تطرح السلطة اليوم البنوك التي مصّرت للبيع والتداول بالبورصة، والتأمين الصحي وخدمات الصحة تخضع اليوم للخصخصة. وبدلاً من توفير الأدوية، ترفع الدولة أسعارها وتهمل مصانعها. وتعاني المصانع من الفساد، وتواجه مصير ما سبقها من مصانع، بالتصفية أو البيع. ويتم تخصيص الأراضي لأنصار السلطة ورجال الأعمال بقوانين وتشريعات، وكأنها ملكية خاصة لمن يشرعون. وتحت وقع الأزمة الاقتصادية، لا يرى النظام سوى فرض الضرائب على الفقراء وشرائح الطبقة الوسطى، ويعفي الأغنياء من الضرائب، ويقدّم لرجال أعمال حسني مبارك التسهيلات والمنح والمزايا. وبدلاً من زيادة فرص العمل، يود التخلص من العمالة، ويراها زائدةً، لا حاجة للدولة لها، بل وتلتهم ثلث الموازنة. أما عن الكرامة والاستقلال الوطني فحدّث ولا حرج، فالنظام يتنازل طواعيةً عن جزيرتين، ويطرح نفسه حامي الحمى في مقابل المساعدات التي تمنحها له بعض الدول، ولا يتردّد في الاقتراض كل نصف عام من مؤسساتٍ دوليةٍ، تفرض شروطها، وتجعل مستقبل المصريين في خطر نتاج تراكم فوائد الديون.
خلاصة القول إن "سلطة يوليو"، على الرغم من شكلها غير الديمقراطي الذي لا بد أن
 نعارضه، ونعارض من يتشبهون بها، أو يسيرون على دربها، انحازت لفقراء الريف والمدن والعمال، بينما تقتلهم "سلطة يونيو" وتطحنهم، بفرض الضرائب وغلاء أسعار الخدمات، وتحابي، في الوقت نفسه، رجال الأعمال والفاسدين، وتضعهم في مواقع اتخاذ القرار، وشرّعت لصالحهم عشرات القوانين، لتبرئة الفاسدين والقتلة، ولتسهيل النهب والفساد. وتحاكم كل من يتطاول على الفاسدين. التناقض واضح بين من حكم مستنداً إلى الانحياز للشعب اجتماعياً، واستقلال الوطن وكرامة الشعب والدفاع عن قضايا وطنه وأمته، ومن يهدر كرامة الشعب، ويذلّه ويخيفه كل يوم، ويهدر أي قيمةٍ للاستقلال الوطني، مرسخاً التبعية الاقتصادية والسياسية. الفرق واضح بين "يوليو" التي رفعت شعار تحرير الوطن ومقاومة الصهيونية والاستعمار، ومن يرتبط بقوى الهيمنة، ويدعو إلى السلام الدافئ مع العدو الإسرائيلي.
اندلعت ثورة يناير، ترفع مطالب العدل والحرية، وضحى المصريون من أجلها وما زالوا. قتل منهم في الشوارع، وهناك من يتم احتجازه في السجون. ويُغتال آخرون بالتشويه والتضييق. وغداً حين يستجمع الشعب قوته، سنصطف، يا رفاق الثورة، لنهتف مرة أخرى. وساعتها، لا بد أن يكون خطابنا واضحاً، وأهدافنا محدّدة، مطالبين بالحرية للشعب، والخبز للفقراء، والعمل للمعطلين. ومطالبين بنظامٍ يقبل الاختلاف والتنوع، ويشرع فيه الناس بأنفسهم، ويخضع للشعب، ويحقّق مصالحه. دولة ديمقراطية مدنيّة، ترفض التلاعب بسلطة الدين، أو تأميم الوطنية لمؤسسة أو هيئة. ويستدعي هذا الحال موقفاً اجتماعياً ووطنياً مترابطاً، وإيماناً بالتنمية المرتبطة بالإنتاج، وبمحاسبة من نهب وأفسد واستبد. وهذا البرنامج لا بد أن يُعترف به، ويستلهم كفاح شعبنا في كل مراحل تاريخه.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".