مصر المبتلاة بالمساجد الحرام والحكام البلح (1)

17 ابريل 2019
+ الخط -
"بنى جامعاً لله من غير حِلِّهِ
فجاء بحمد الله غير موفّقِ
كمُطعمة الأيتامِ من كَدِّ فرجها
فليتكِ لا تزني ولا تتصدقي"

أورد المؤرخ العظيم ابن إياس في كتابه (بدائع الزهور في وقائع الدهور) هذه الأبيات التي كتبها شاعر مصري مجهول الاسم، تعليقاً على بناء الملك المؤيد جامعاً ضخماً أنفق عليه من "مال حرام" قام ابن إياس بتعداد مصادره غير الشرعية، لتنتشر هذه الأبيات بين المصريين الذين "شنّعوا على السلطان وخاضت فيه ألسنتهم" ساخرين من تصور السلطان أن لجوءه لبناء مسجد حرام يمكن أن ينسي شعبه جرائمه، أو يمكن أن يعفيه من الحساب عنها أمام الله، وكما يقول المؤرخ ابن تغرّي بردي فقد "بلغت هذه الأبيات جميعاً السلطان، وأنشدت بين يديه وصار لها في البلد أمر كبير".

في كتابه (الشعر الشعبي الساخر في عصور المماليك) يضع الدكتور محمد رجب النجار هذه الواقعة في سياق أوسع، ليتحدث عن ظاهرة قيام حكام مصر من المماليك ببناء الجوامع الضخمة، معتمدين على "مال حرام جمعوه بطريق الظلم والعدوان والمصادرات" متصورين أن ذلك وما ماثله من إنجازات مثل بناء المدارس والأسبلة والمستشفيات كفيل بغفران ما ارتكبوه من جرائم على رأسها "ظلم العباد وخراب البلاد وقتل النفس"، وهو ما جعل أبيات الشاعر المجهول السالف ذكرها تتنقل من عصر لآخر، كلما بُني جامع لغسيل سمعة حاكم ظالم، ليحمل ذلك النوع من المساجد لقباً ساخراً هو (المسجد الحرام)، وهو لقب بدأ إطلاقه على مسجد ضخم بناه السلطان قانصوه الغوري من حصيلة "المظالم والمال الحرام"، بشكل استفز الزجال ذائع الصيت في العصر المملوكي الأول إبراهيم المعمار، فأطلق أبياتاً أصبحت عابرة للزمن ووجدت من يرددها في عصور مختلفة تعليقاً على تسابق الحكام في بناء المساجد الحرام:

"قد بُلينا بأميرٍ
ظلم الناس وسبّح
فهو كالجزّار فيهم
يذكر الله ويذبح"


في حديثه عن الطابع العام للحكم في عصور المماليك الذي أنتج مثل هذا الشعر السياسي الساخر، يرى الدكتور محمد رجب النجار أن المماليك كانوا "داخلياً سلطة تبطش لا تحمي"، باستثناء مماليك عظام يعدون قلة وسط العدد الهائل من السلاطين الظلمة الباحثين عن المال والثراء والسلطان، والذين فقدت البلاد في ظلهم استقرارها وأمنها وأمانها، وغدت مرتعاً لنزوات وتخبطات هؤلاء العسكريين المغامرين الذين غلبت عليهم نشأتهم العسكرية "وسيطر عليهم الخوف من المستقبل، فاندفعوا يستأثرون بالثروات الضخمة للبلاد وقد اعتبروها ضيعة خاصة لهم، فراحوا يمتصون عرق أهلها دون أية غايات قومية أو دينية على نحو يصدق عليه قول المقريزي في خططه، حين قال في سخرية مريرة: "نزل بالناس من البحرية (المماليك) بلاء لا يوصف، ما بين قتل ونهب وسبي، بحيث لو ملك الفرنج بلاد مصر ما زادوا في الفساد على ما فعله البحرية"، وهذا يعني أنهم باتوا كابوساً مقيماً، ظل الشعب يستشعر وطأته بأكثر ما كان يمكن أن يحدث له في أيام الفرنجة، وما أطول ما عاش الشعب تحت وطأة هذا الكابوس الجاثم".

اضطر المجتمع المصري إزاء ما ألم به من محن ومصائب، وجراء فشله الدائم في مواجهتها، وعجزه عن تحقيق ذاته ووجوده تحقيقاً إيجابياً، بعد أن جرده ظالموه من إمكانيات الرد، ولظروف تفوق قدرته، إلى أن يلوذ بالسلاح الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يجرده منه وهو لسانه، الذي يروي الدكتور النجار في كتابه الجميل كيف حاول الحكام قطعه وإخراسه بالتنكيل بمن يثبت تورطه في الهجاء السياسي، كما حدث على سبيل المثال لا الحصر للشاعر الشعبي ابن عنّين الذي كتب قصيدة من خمسمائة بيت سماها (مِقراض الأعراض) نقد فيها عصره سياسيا وهجا حكام زمنه وعلى رأسهم صلاح الدين الأيوبي ومن معه من الوزراء والأمراء والقضاة، مستخدماً في ذلك "ألفاظ العامة وعباراتهم الخادشة للحياء" على حد تعبير النجار، وهو ما جعل صلاح الدين يحكم عليه بالنفي إلى الهند مدى الحياة، وقد كانت تلك العقوبة أقسى عليه من عقوبات طالت آخرين، تم سجنهم لبعض الوقت، لكنه كان أسعد حالاً ممن أدت سخريتهم إلى قطع ألسنتهم.

لذلك، لم يكن غريباً أن تتم نسبة أقوى وأقسى الأبيات الشعرية والزجلية الساخرة إلى شعراء مجهولين، عبروا بما كتبوه عن تفنن الشعب في محاربة ظالميه بروح التندر والفكاهة التي حاول الحكام القضاء عليها دون جدوى، لأن لجوء المقهورين للسخرية من ظالميهم، كان كما يرى الدكتور النجار يزودهم بقدر من المناعة النفسية ويرفع روحهم المعنوية ويمدهم "ولو إلى حين بجرعة من الشجاعة والقدرة على المجابهة والصمود والتحدي باستخفافهم ولا مبالاتهم بما يترتب على المواقف المختلفة من آثار سيئة، وهو ما يعني تحقيق شيء من التحرر أو الانعتاق الوقتي من أسر بعض مظاهر الكبت والقمع الواقعة عليهم بصفة مستمرة".

لم تقتصر تلك الأشعار الساخرة على الأمراء والوزراء فقط، بل امتدت إلى أهم أعوانهم في تثبيت الحكم من الجنود والوزراء والكبراء والقضاة، الذين تناقل المصريون عبر السنين الكثير من الأشعار التي تهجوهم وتنشر فضائحهم، منها على سبيل المثال لا الحصر، هذه الأبيات التي قيلت في هجاء قاضٍ فاسد، والتي ينقلها إبن إياس في تاريخه بعد أن يسبقها بقوله "فلا حول ولا قوة إلا بالله وأنا أستغفر الله من ذلك":

يا أيها الناس قفوا واسمعوا
صفات قاضينا التي تُطربُ
يلوط يزني ينتشي يرتشي
ينمُّ يقضي بالهوى يكذبُ

ومما قيل في هجاء الجنود والقادة العسكريين، هذه الأبيات التي يسخر فيها شاعر شعبي مجهول من أزياء أمراء المماليك العسكرية المزركشة:

يقول أميرنا لما تبدى
أنا في الحرب ذو القرنين دعني
أنا كبشٌ وأعدائي نعاجٌ
إذا برزوا فأنطحها بقرني

ينقل ابن إياس أيضاً من نظم شاعر شعبي تعليقاً على زيارة أحد الكبراء للحج:

حججت البيت ليتك لا تحجُّ
فظلمك قد فشا في الناس ضجّوا
حججتَ وكان فوقك حِمل ذنبٍ
رجعت وفوق ذاك الحمل خُرجُ

لكن شيوع "الجرائم الشعرية المناهضة للسلطات" لكي يصبح من الصعب ربطها بشخص بعينه، لم يمنع كثيراً من السلاطين والولاة من إشاعة التنكيل بين الناس عقاباً لها، بل إن بعضهم كما يروي المؤرخون "أطلق القتل في العوام بلا ضمير حين سمع أغنية تسخر منه"، فعل ذلك على سبيل المثال الملك بيبرس الجاشنكير حين نجح في خلع الملك الناصر محمد بن قلاوون ونفاه إلى الكرك، لكنه بعد أن تربع على العرش "توقف النيل عن الزيادة فضج الناس وماجوا في بعضهم وتشحطت الغلال، وارتفع الخبز من الأسواق" كما يروي إبن إياس، وتشاءم الناس من اغتصاب الجاشنكير لعرش الناصر بن قلاوون الذي كان يتعاطف معه العامة، فكانوا كما يروي المقريزي "يخرجون في مجموعات بشوارع القاهرة وهم يضحكون ويهزلون ويصنعون كلاماً ويلحنونه وصاروا يغنونه في أماكن التفرجات وفي الحدائق والطرقات"، وكان من أشهر ما غناه الناس أبيات يرى المؤرخ ابن تغرى بردي أنها أوقعت الوحشة بين المظفر بيبرس والمصريين، فأخذت دولته في اضطراب منذ أن سرت هذه الأبيات الساخرة بين المصريين:

سلطاننا ركين ونائبو دقين
يجي الماء يدحرج
هاتوا لنا الأعرج
يجينا الماء من أين

كان بيبرس الجاشنكير قد اتخذ لنفسه من قبل لقب ركن الدين، فسماه الناس "رُكين" احتقاراً له، وكان نائبه الأمير سلار أجرد مع بعض الشعيرات في ذقنه، فسماه الناس سخرية "دُقَين"، أما الأعرج الذي طالب الناس به لحل مشاكلهم فقد كان الناصر بن قلاوون الذي كان به بعض عرج، وقد كانت المطالبة بعودته إلى موقع المسئولية هي التي أثارت غضب السلطان أكثر، حيث يروي ابن إياس أنه حين وصلت إلى مسامعه تلك الأبيات المغناة أمر "بقبض جماعة من العوام نحو ثلاثمائة إنسان، فضرب منهم جماعة بالمقارع وأشهرهم في القاهرة ورسم بقطع ألسنة جماعة منهم"، وحين علم أن بعض أنصار الناصر راسلوه في منفاه، قام بمعاقبتهم، لكن ذلك لم يخفف من معارضة الناس له، بل زاد من شدتها، حتى نجح الناس في إعادة الناصر بن قلاوون إلى السلطنة بعد أقل من عام، وفر بيبرس الجاشنكير هارباً من القلعة تحت جنح الظلام، بعد أن كادت العامة تفتك به.

نكمل غداً بإذن الله
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.