صمت مطبق. تُسرع الخطوات قليلاً فتجد أطفالاً صغاراً يقفون على باب المقبرة، يفتحون أياديهم، فيحصلون على بضعة جنيهات من أهل الموتى نظير عنايتهم بالمقابر. امرأة ترفع على رأسها دلو مياه، جاءت به من مسافة بعيدة. نسير خلفها، فنصل إلى مجموعات من النساء يجلسن على الأرض، يعشن في هذا المكان، يتساوين مع الموتى، يشاركنهم قطعا قليلة من الأرض. اسمهم "سكان المقابر"، مواطنون مصريون لا يعرفون شيئاً عن الحياة سوى الموت.
تقول دراسة للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في عام 2008 إن عدد سكان المقابر في القاهرة الكبرى فقط يصل إلى مليون ونصف المليون مواطن، وإن أغلب هؤلاء السكان يعيشون في منطقة باب النصر، وعين شمس، ومدينة نصر، والسادس من أكتوبر. في حين تؤكد تقارير مستندة إلى أبحاث غير معلنة رسمياً، أن العدد الإجمالي لسكان المقابر يتجاوز 5 ملايين نسمة.
إهمال رسمي واضح
إعلانات مترامية هنا وهناك بعنوان: "ابنِ قبرك". إعلان درامي، لا يكتمل في سوداويته إلا حين الاتصال بالرقم المكتوب تحت الإعلان. حيث يتبين أن سعر المقبرة الواحدة في الشارع (أي من دون أسوار)، يصل إلى 35 ألف جنيه دفعة واحدة. وإذا رغبت في التقسيط خلال عام واحد فيصل سعرها من 40-45 ألف جنيه. وإذا كنت من الأثرياء يصل سعر "الحوش" المبني (منزل صغير)، وبه مقبرتان ومحاط بأسوار، إلى ما يزيد عن 120 ألف جنيه. مبلغ يساوي إيجار 12 شقة جديدة لمن يسكنون في المدافن.
تقول عضو حملة تطوير العشوائيات، مريم عدلي لـ"العربي الجديد"، إن هناك تراخياً من قبل الدولة في التعامل مع ملف العشوائيات برمته، خصوصاً قضية سكان المقابر. وتلفت عدلي إلى أن عدد سكان المقابر الفعلي يتجاوز ضعف ما تتحدث عنه الدولة، وأن الظاهرة في تزايد مستمر. وتشرح أنه في عام 1986 كان إجمالي عدد سكان المقابر لا يتجاوز الـ180 ألف نسمة، أما الآن فالعدد بالملايين. واقع يؤكد أن وزارة التطوير الحضاري في غيبوبة لن تخرج منها إلا بكارثة محققة.
إذ يفتقد سكان المقابر أقل حقوقهم. وتؤكد الدراسات أن 90 % من أطفال العشوائيات محرومون تمامًا من الخدمات التعليمية، بجانب انخراطهم في سوق العمل في سن مبكرة لإعالة أسرهم. ويعمل هؤلاء في الورش أو كباعة متجولين، وعادة ما يكونون، وفق الأبحاث، عرضة لمخاطر اجتماعية. في حين يكاد الأمن ينعدم في عشوائيات المقابر، حيث يرتفع معدل الجريمة.
وعما يردده بعض المسؤولين من أن أزمة سكان المقابر تحتاج إلى أموال طائلة لحلها، تؤكد عدلي أن هناك ملايين الجنيهات يحصل عليها المسؤولون في المحافظات يمكن تخصيصها لحل أزمات سكان المقابر. وتشرح أن المحافظات تتلقى منحاً خارجية كتلك التي حصل عليها محافظ القاهرة أخيراً والتي تقدر بـ188 مليون جنيه وغيرها. وتقول عدلي إنه إضافة إلى المنح، هناك ضريبة لتطوير العشوائيات يمكن فرضها على رجال الأعمال والأثرياء الذين يقومون ببناء مقابر تسمى بـ"السياحية" ويزيد ثمنها عن 150 ألف جنيه. بل يتنافس هؤلاء في شكل المقبرة، ويتبارون في تعيين شركات أمن لحمايتها.
أما المدير التنفيذي للإسكان الاجتماعي في وزارة الإسكان، صلاح حسن، فيؤكد لـ"العربي الجديد" أن الدولة تسعى إلى حل مشاكل العشوائيات، خصوصاً المشكلات التي يواجهها سكان المقابر. ويقول حسن إن "الوزارة طرحت أخيراً 52 ألف وحدة سكنية بشروط إسكانية واضحة. وأنه من المقرر تسليمها خلال أيام لمستحقيها؛ سواء كانوا سكان مقابر أو عشش أو غيره". ويقول حسن إن "بعض سكان المقابر يمتلكون شققاً في مصر، ويستغلون المقابر لزيادة مدخولهم؛ سواء من خلال العمل في الدفن أو تلقي الهبات من أهالي الموتى".
عائلات تشكي همومها
في مقابر السيدة عائشة بالقرب من وسط القاهرة، تعيش رشا وأولادها الثلاثة ووالدتها الضريرة وأخوها العاطل عن العمل وزوجته وأولاده الخمسة. جميعهم يعيشون في بيت صغير جداً حول مدفن جدهم، بمساحة لا تزيد عن 60 متراً.
تروي رشا قصة بقائها وعائلتها بجوار الأموات. وتقول لـ"العربي الجديد": "قام جدي ببناء هذه المقبرة في الستينيات، وزرع حولها الشجر ليُدفن أفراد العائلة بالقرب من بعضهم. وقتها كنا نأتي في زيارات إلى المقبرة".
وتتابع "سنوات قليلة مرت وتوفي أبي وعجزت أمي الضريرة عن دفع إيجار الغرفة التي كنا نعيش فيها في منطقة السيدة زينب، حيث كان إيجارها 250 جنيهاً شهرياً. بحثنا عن سكن آخر، ولكننا فوجئنا بأن أقل غرفة في أبعد منطقة تتراوح ما بين 500 و600 جنيه شهرياً، إضافة إلى مبلغ تأمين يتجاوز الـ10 آلاف جنيه". وتضيف رشا: "عجزنا عن توفير تلك المتطلبات، فلم نجد أمامنا سوى قبر أجدادنا لنعيش فيه".
"إنها عيشة غير آدمية، حيث الانقطاع الدائم للمياه، والروائح الكريهة، والحشرات القاتلة"، تقول رشا. وتضيف: "يكفي أن أطفالنا يستيقظون يومياً على صراخ أهل الموتى، ويكفي أنه لا يمكننا الخروج من المنزل بعد غروب الشمس؛ خوفاً من البلطجية وتجار المخدرات".
على بعد خطوات قليلة من "العشة" التي تطلق عليها رشا وأهلها لقب "منزل"، تعيش امرأة مسنة لا تعرف كم عمرها. ولكن اسمها أم محمد، وتحلم بأن تعيش في شقة بعيدة عن رائحة الأموات.
تقول أم محمد لـ"العربي الجديد": "تزوجت وعمري 15 عاماً. كان زوجي يعمل في بناء المقابر. وعندما قررنا الزواج لم نجد مسكناً يناسب ظروفنا المادية سوى "حوش" تركه لنا أصحابه لحمايته من "البلطجية". وبالفعل تزوجت هنا، وأنجبت أبنائي الثلاثة، لكنني لم أستطع إكمال تعليمهم بعد وفاة زوجي وعدم قدرتي على العمل في المنازل مثلما كنت أفعل من قبل".
تنهي أم محمد كلامها بضياع واضح. بعدما أثقل العمر لسانها، وذاكرتها على حد سواء.
هنا، في المقابر، سكان لا يعرفون معنى "عدالة اجتماعية". هم لا يعرفون أنهم مواطنون أصلاً، ولا يراهنون على حلول لأزمتهم المستفحلة. وهنا، في المقابر، لا وجود لدولة ولا لنظام ولا لأي مظهر من مظاهر الحياة العادية. واقع أن ملايين البشر في مصر يعيشون في المقابر، وحده يدلل على غياب أي شرط إنساني يُمكن أن يبنى عليه للحديث عن "حياة".
إهمال رسمي واضح
إعلانات مترامية هنا وهناك بعنوان: "ابنِ قبرك". إعلان درامي، لا يكتمل في سوداويته إلا حين الاتصال بالرقم المكتوب تحت الإعلان. حيث يتبين أن سعر المقبرة الواحدة في الشارع (أي من دون أسوار)، يصل إلى 35 ألف جنيه دفعة واحدة. وإذا رغبت في التقسيط خلال عام واحد فيصل سعرها من 40-45 ألف جنيه. وإذا كنت من الأثرياء يصل سعر "الحوش" المبني (منزل صغير)، وبه مقبرتان ومحاط بأسوار، إلى ما يزيد عن 120 ألف جنيه. مبلغ يساوي إيجار 12 شقة جديدة لمن يسكنون في المدافن.
تقول عضو حملة تطوير العشوائيات، مريم عدلي لـ"العربي الجديد"، إن هناك تراخياً من قبل الدولة في التعامل مع ملف العشوائيات برمته، خصوصاً قضية سكان المقابر. وتلفت عدلي إلى أن عدد سكان المقابر الفعلي يتجاوز ضعف ما تتحدث عنه الدولة، وأن الظاهرة في تزايد مستمر. وتشرح أنه في عام 1986 كان إجمالي عدد سكان المقابر لا يتجاوز الـ180 ألف نسمة، أما الآن فالعدد بالملايين. واقع يؤكد أن وزارة التطوير الحضاري في غيبوبة لن تخرج منها إلا بكارثة محققة.
إذ يفتقد سكان المقابر أقل حقوقهم. وتؤكد الدراسات أن 90 % من أطفال العشوائيات محرومون تمامًا من الخدمات التعليمية، بجانب انخراطهم في سوق العمل في سن مبكرة لإعالة أسرهم. ويعمل هؤلاء في الورش أو كباعة متجولين، وعادة ما يكونون، وفق الأبحاث، عرضة لمخاطر اجتماعية. في حين يكاد الأمن ينعدم في عشوائيات المقابر، حيث يرتفع معدل الجريمة.
وعما يردده بعض المسؤولين من أن أزمة سكان المقابر تحتاج إلى أموال طائلة لحلها، تؤكد عدلي أن هناك ملايين الجنيهات يحصل عليها المسؤولون في المحافظات يمكن تخصيصها لحل أزمات سكان المقابر. وتشرح أن المحافظات تتلقى منحاً خارجية كتلك التي حصل عليها محافظ القاهرة أخيراً والتي تقدر بـ188 مليون جنيه وغيرها. وتقول عدلي إنه إضافة إلى المنح، هناك ضريبة لتطوير العشوائيات يمكن فرضها على رجال الأعمال والأثرياء الذين يقومون ببناء مقابر تسمى بـ"السياحية" ويزيد ثمنها عن 150 ألف جنيه. بل يتنافس هؤلاء في شكل المقبرة، ويتبارون في تعيين شركات أمن لحمايتها.
أما المدير التنفيذي للإسكان الاجتماعي في وزارة الإسكان، صلاح حسن، فيؤكد لـ"العربي الجديد" أن الدولة تسعى إلى حل مشاكل العشوائيات، خصوصاً المشكلات التي يواجهها سكان المقابر. ويقول حسن إن "الوزارة طرحت أخيراً 52 ألف وحدة سكنية بشروط إسكانية واضحة. وأنه من المقرر تسليمها خلال أيام لمستحقيها؛ سواء كانوا سكان مقابر أو عشش أو غيره". ويقول حسن إن "بعض سكان المقابر يمتلكون شققاً في مصر، ويستغلون المقابر لزيادة مدخولهم؛ سواء من خلال العمل في الدفن أو تلقي الهبات من أهالي الموتى".
عائلات تشكي همومها
في مقابر السيدة عائشة بالقرب من وسط القاهرة، تعيش رشا وأولادها الثلاثة ووالدتها الضريرة وأخوها العاطل عن العمل وزوجته وأولاده الخمسة. جميعهم يعيشون في بيت صغير جداً حول مدفن جدهم، بمساحة لا تزيد عن 60 متراً.
تروي رشا قصة بقائها وعائلتها بجوار الأموات. وتقول لـ"العربي الجديد": "قام جدي ببناء هذه المقبرة في الستينيات، وزرع حولها الشجر ليُدفن أفراد العائلة بالقرب من بعضهم. وقتها كنا نأتي في زيارات إلى المقبرة".
وتتابع "سنوات قليلة مرت وتوفي أبي وعجزت أمي الضريرة عن دفع إيجار الغرفة التي كنا نعيش فيها في منطقة السيدة زينب، حيث كان إيجارها 250 جنيهاً شهرياً. بحثنا عن سكن آخر، ولكننا فوجئنا بأن أقل غرفة في أبعد منطقة تتراوح ما بين 500 و600 جنيه شهرياً، إضافة إلى مبلغ تأمين يتجاوز الـ10 آلاف جنيه". وتضيف رشا: "عجزنا عن توفير تلك المتطلبات، فلم نجد أمامنا سوى قبر أجدادنا لنعيش فيه".
"إنها عيشة غير آدمية، حيث الانقطاع الدائم للمياه، والروائح الكريهة، والحشرات القاتلة"، تقول رشا. وتضيف: "يكفي أن أطفالنا يستيقظون يومياً على صراخ أهل الموتى، ويكفي أنه لا يمكننا الخروج من المنزل بعد غروب الشمس؛ خوفاً من البلطجية وتجار المخدرات".
على بعد خطوات قليلة من "العشة" التي تطلق عليها رشا وأهلها لقب "منزل"، تعيش امرأة مسنة لا تعرف كم عمرها. ولكن اسمها أم محمد، وتحلم بأن تعيش في شقة بعيدة عن رائحة الأموات.
تقول أم محمد لـ"العربي الجديد": "تزوجت وعمري 15 عاماً. كان زوجي يعمل في بناء المقابر. وعندما قررنا الزواج لم نجد مسكناً يناسب ظروفنا المادية سوى "حوش" تركه لنا أصحابه لحمايته من "البلطجية". وبالفعل تزوجت هنا، وأنجبت أبنائي الثلاثة، لكنني لم أستطع إكمال تعليمهم بعد وفاة زوجي وعدم قدرتي على العمل في المنازل مثلما كنت أفعل من قبل".
تنهي أم محمد كلامها بضياع واضح. بعدما أثقل العمر لسانها، وذاكرتها على حد سواء.
هنا، في المقابر، سكان لا يعرفون معنى "عدالة اجتماعية". هم لا يعرفون أنهم مواطنون أصلاً، ولا يراهنون على حلول لأزمتهم المستفحلة. وهنا، في المقابر، لا وجود لدولة ولا لنظام ولا لأي مظهر من مظاهر الحياة العادية. واقع أن ملايين البشر في مصر يعيشون في المقابر، وحده يدلل على غياب أي شرط إنساني يُمكن أن يبنى عليه للحديث عن "حياة".