بعد سنوات من النمو الاقتصادي الصيني المتواصل الذي مولته بكين عبر القروض التي أخذتها الشركات الصينية من المصارف الغربية، تواجه العديد من الشركات ومصارف التنين مخاطر ارتفاع حجم الديون المتعثرة والقروض التي تحمل مخاطر عدم السداد.
وتقدر بيانات رسمية حجم القروض المصرفية التي لا تدر أرباحاً في الصين بأكثر قليلاً من نصف ترليون دولار. كما أن هنالك نحو 586 مصرفاً ومؤسسة مالية في الصين يتم إدراجها من قبل البنك المركزي الصيني على أنها مؤسسات خطرة قد تتعرض للإفلاس.
ويقدر رئيس لجنة المخاطر بالمصارف الصينية، زياو يا ينجي، حجم القروض غير العاملة في تلك المصارف حتى نهاية يونيو/ حزيران الماضي بنحو 515 مليار دولار. ويمثل ذلك زيادة بنسبة 12.5% منذ بداية العام الجاري.
فالصين رغم ما تتسم به من ثراء وتزايد في عدد المليارديرات وتراكم في الاحتياطات الدولارية، فإنها غارقة في الديون، إذ استدانت شركاتها بشراهة خلال العقدين الماضيين لصناعة التوسع الصناعي والتجاري والتقني. كما أن الصين حافظت على معدل فائدة مرتفع مقارنة بنسبة الفائدة في أوروبا وأميركا. وهذا العامل جذب المصارف الغربية نحو الشركات الصينية، إذ إن العديد من المصارف التجارية الأميركية حصلت خلال أزمة المال العالمية في العام 2008 على دولارات رخيصة من مصرف الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) على أمل تمويل النشاط التجاري وخلق الوظائف، ولكن ما حدث أن المصارف الأميركية تاجرت بهذه الأموال في الأسواق الناشئة وعلى رأسها الصين وحققت منها أرباحا ضخمة.
وحسب بيانات مؤسسة "ستاندرد آند بورز" الأميركية للتصنيف الائتماني، فإن إجمالي حجم الديون الصينية السيادية يقدر بنحو 39 ترليون يوان، (أي حوالى 5.48 ترليونات دولار)، وهو أقل كثيراً من حجم الدين الأميركي كنسبة من إجمالي الناتج المحلي. ولكن بينما تملك الولايات المتحدة عملة احتياط دولية، وهي الدولار، تجعل دينها مطلوباً من قبل جميع الدول والشركات، فإن سعر صرف اليوان الصيني لا يزال محكوماً بسعر صرف الدولار.
ويعادل الدين الصيني الرسمي نسبة 48.4% من إجمالي الناتج المحلي الصيني المقدر بنحو 11.5 ترليون دولار، وهي نسبة ليست كبيرة، ولكن مشكلة الصين تكمن في ارتفاع ديون الشركات والمصارف التي تقدر بنحو 129% من إجمالي الناتج المحلي الصيني.
وتشير بيانات "ستاندرد آند بورز" إلى أن إجمالي الديون الصينية الرسمية وديون الشركات ارتفعت بنسبة 11% خلال الربع الأول من العام الجاري إلى 258% من الناتج المحلي، واقترضت الشركات بكثافة في الصين خلال الأشهر الأولى من العام لمحاصرة تداعيات جائحة كورونا التي بدأ تفشيها مبكراً في الصين مقارنة بدول العالم الأخرى. وهذه النسبة تعني أن حجم الديون الصينية يقدر بنحو 30 ترليون دولار.
ويرى محللون أن أزمة الشركات الصينية تكمن في ضعف الإيرادات الصافية المتحققة مقارنة بنظيراتها العالمية، إذ إن الدخل الصافي الذي تحققه الشركات الصينية من عملياتها ليس كافياً لمقابلة التزاماتها المالية مثلما هو الحال في أميركا وأوروبا. وحسب دراسة لشركة ناتيكسس البحثية المتخصصة في القطاع المصرفي، شملت 3000 شركة صينية كبرى مسجلة في البورصات الصينية، فإن نسبة الديون إلى حجم الأسهم لدى الشركات الصينية تقدر في المتوسط بـ86%، وهو معدل أفضل من المعدل العالمي البالغ 152%، ولكن قدرة الشركات الصينية على خدمة ديونها تعد ضعيفة مقارنة بالشركات العالمية. وتتبع الشركات الصينية استراتيجية التوسع الأفقي المتمثل في زيادة عدد الزبائن أكثر من تركيزها على القطاعات التي تخلق ربحية عالية.
ومن المتوقع أن تتأثر العديد من الشركات والمصارف الصينية بالقوانين الأمنية التي أجازتها حكومة البر الصيني في جزيرة هونغ كونغ التي تتمتع بحكم ذاتي. وتثير هذه القوانين غضباً على الصعيد الغربي، وكذا على صعيد أصحاب الثروات داخل جزيرة هونغ كونغ نفسها. وحتى الآن تراجعت أسعار أسهم المصارف الصينية المسجلة في بورصة هونغ كونغ بنسبة 15% في المتوسط خلال العام الجاري، ولكن من المتوقع أن تتعرض الأسهم المصرفية لمزيد من الضغوط العالمية بسبب إجراءات الحظر الأخيرة التي اتخذتها الإدارة الأميركية ضد مسؤولين وشركات مالية.
على صعيد خسائر المصارف من تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد والشركات، تقدر مؤسسة "ستاندرد آند بورز" الأميركية للتصنيف الائتماني خسارة المصارف الصينية بنحو 398 مليار دولار في العام الجاري، 2020، والعام المقبل، 2021، وذلك من إجمالي خسارة المصارف الكبرى في العالم المقدر لها أن تصل إلى نحو 2.1 ترليون دولار حتى نهاية العام المقبل، 2021.
وتقدر مجلة "ذا بانكر" المصرفية البريطانية حجم القروض التي منحتها المصارف الصينية حتى نهاية يونيو/ حزيران بنحو 18 ترليون دولار، بينما لديها ودائع تقدر بنحو 24 ترليون دولار. ويوجد في الصين حوالى 143 مصرفاً ضمن قائمة مجلة "ذا بانكر" البريطانية لأكبر 1000 مصرف في العالم.
وتتخوف الحكومة الصينية من احتمالات تطبيق إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإجراءات حظر جديدة تمنع مصارفها من استخدام نظام "سويفت" للتسويات الدولية، كما تحرم شركاتها من تمويلات المصارف الغربية وتوفير السيولة الدولارية التي تحتاجها في ظل هذه الظروف القاسية التي يعيشها السوق العالمي.
خطوة الحظر المالي الأميركي ضد مصارف الصين تحت الدراسة ويدعمها العديد من المشرعين في الكونغرس. وبالتالي تبحث الصين عن بدائل لتخفيف الحظر المالي الأميركي المحتمل. من بين هذه البدائل أسست الصين نظاماً جديداً للتسويات المالية تحت اسم "سيبس"، وطلبت من المصارف استخدامه كبديل لنظام "سويفت". وحتى الآن نفذ سيبس عمليات تسوية مالية تقدر بنحو 19.4 مليار دولار يومياً في المتوسط منذ العام 2019.
ومن بين العقوبات المقترحة في مشروع القانون الجديد حرمان المصارف التجارية الصينية من استخدام الدولار في التسويات المالية والتجارية الخارجية. وهذا يعني أن المصارف التجارية الصينية لن تستطيع استخدام العملة الأميركية في جميع التسويات، وكذلك حرمانها من إصدار "سندات اليورو"، أي تلك السندات التي تصدر بالدولار خارج الولايات المتحدة. وكانت محكمة أميركية قد أدانت ثلاثة مصارف صينية في العام الماضي بخرقها لقانون الحظر على كوريا الشمالية.
وفي حال إقرار مشروع القانون الأميركي المقترح، فإن المصارف الصينية ستتعرض لأضرار مالية باهظة جداً، إذ إنها توسعت خلال السنوات الأخيرة في عمليات الإقراض العالمية في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية.
وحسب إحصائيات بنك التسويات الدولية، فإن لدى البنوك الصينية قروضا خارجية تقدر بحوالى 2.215 ترليون دولار، وأن 63% من هذه القروض مقيمة بالدولار. كما أن لدى المصارف التجارية الصينية قروضاً في البر الصيني وهونغ كونغ وسندات وديوناً مصدرة بالدولار تقدر قيمتها بحوالى 321 مليار دولار، وربما ستحتاج الشركات التي استدانتها إلى إعادة تمويل عبر الاقتراض بالدولار. وبالتالي فإن المصارف الصينية ستتعرض لخسائر ضخمة، وربما يواجه بعضها الإفلاس إذا نفذت إدارة الرئيس ترامب حظر المتاجرة بالدولار، وحظر استخدامه بواسطة البنوك الصينية في إصدار السندات والتسويات الدولية.