مسيرة الرئة الواحدة

06 اغسطس 2016
+ الخط -

في العام 2000 كان ثمة مدينتان فلسطينيتان لم تطأهما قدمي حتى تلك اللحظة، ثم أسعفتني زيارة عمل إلى قلب مدينة الخليل جنوبي "الضفة الغربية" المحتلة، فصار العدد واحداً، بقيت غزة بعد ذلك، تلك المدينة الساحرة المطوّعة على المختلف من الاحتمالات والمشرّعة على كل ما يحتمله قلب المدينة من سحر وغموض ودهشة.

ستمضي الأيام، ماحية معها شوارع كاملة باسم غزة من مدن الضفة الغربية، واتجاهات بأكملها باسم مدن الضفة الغربية من هناك، فَعَلَ الزمن والاحتلال والرعونة الوليدة فعلتهم، لندخل بعدها، وتدخل غزة معنا في اشتباك التمثيل والطريقة والطريق، اشتباك سقط الفهم الفلسطيني فيه كما لم يسقط من قبل في مسيرة الرئة الواحدة المُضنية فاختلطت الآمال بالحسابات المروّعة.

ولعل أسوأ كوابيس الحسابات المروعة، لم تكن لتصطدم بالمأساة الكثيفة على أرض الواقع، في شقيها الأليمين، شق الحصار وتهافت "الأشقاء" عليه، وشق الحرب ومخالبها التي تبطش ولا ترحم، ستصبح حياة عنق الزجاجة التي يحياها الناس هناك شكلاً ممكناً من أشكال الحياة، يعد عليهم فيها الأنفاس، وستخوض الجغرافيا الضيقة بعد ذلك حروبها وحدها أمام النار والموت والبارود المؤجل المشرع على مقياس اللحظة المستمرة.

في حروبها: يجيء الليل على بيوتٍ نقصت أطفالاً. يطرق الليلُ الأبوابَ ويقول: هل لازال لديكم أطفالٌ يخافون عتمتي؟ يومئ الأهالي بالفراغ والدموع وبقايا ظلال مختبئة في زوايا المنزل. غزة لا تعرف ليلها، يأتي الليل شفافاً على ظهر غيمة مسرعة، ويذهب خجولاً؛ لا أطفال يسحبون الوسائد في عراك البراءة مع الليل والنعاس والنشاط!

الموت في غزة، تجاوز حدود الوعي الكرتوني عند الأطفال، وصار حقيقة بالغة الصعوبة والأثر، إذ كيف يمكن تأمل تجربة طفل غزاوي، تجاوز حدود الطفولة المبكرة بخبرة تحتوي ثلاث حروب كاملة في وعيه العميق؟

الحرب والموت؛ كلمات غامضة وحزينة ومقفلة، نلفظها بعجلة مثيرة للانتباه، وكأننا نتخلص من شيءٍ عالق في أفواهنا، يعجز الأطفال عن إدراكها. مفهوم الحرب والموت عند الأطفال لا يتجاوز كونه لعبة ترمم الفجوة الهائلة بين برامج الكارتون والواقع.

أقول تحت صدمات المشاهد المتتالية: لو أنزلنا مفهوم البطولة والشجاعة عن شجرة النظرية والأسطورة إلى حيّز الواقع/ على ألمه وقسوته، لقلنا، إن الطفل الناجي من ثلاث حروب على التوالي، هو مشروع فانتازيا غريبة، تتجاوز ذهنياً، البطولة الكرتونية، التي ظلّت بعيدة جداً سابقاً، وصارت قريبة في غزة، على وجه الحصر لا المثال.

سألتقي، بعد ذلك، صديقاً قادماً من غزة، ستحتفي دهشتي بالقادم من هناك: كيف حال غزة؟ لو خُيّر لي أن أزور العالم أو أزور غزة، سأختار غزة، حتماً! سيضحك صديقي الغزاوي من دهشتي، ويفرد دهشته احتفاءً بالمدينة هنا في الضفة التي تنخز خاصرة سمائها مبانٍ شاهقة الارتفاع، صنعتها أموال الممولين ومنجزات البنك الدولي وحياة ما بعد السلام الاقتصادي، هنا!

(كاتب فلسطيني/ رام الله)