تبدو قاعة كنيسة مار الياس للروم الكاثوليك، في الجنوب الغربي، للعاصمة الأردنية عمّان، كصالة انتظار مسافرين تأخرت الطائرة، التي ستقلهم إلى وجهة لا يعرفونها، بعد أن أصبحت ملجأً لمسيحيي الموصل. تتحايل السبعينية فريال داود على الوقت، بلعب ورق الشدة، فيما ابنها رغيد يقرأ كتاباً، غير بعيد عنهما، يلعب فادي يوسف مع شقيقه طاولة الزهر. أما العجوز فخري جبرائيل، فيصرّ على إبقاء حقائبه مغلقة. ينتظر في قاعة الكنيسة، التي قسمت، بقواطع خشبية، كيفما اتفق، أملاً في تحقيق خصوصية لم تتحقق، 72 مسيحياً قدموا من أربيل، التي هجروا إليها قسراً من محافظة الموصل وسهل نينوى، على يد تنظيم "الدولة الإسلامية".
وافقت الحكومة الأردنية على استقبال ألف لاجئ، من مسيحيي الموصل، الذين فروا إلى إقليم كردستان العراق، وبدأ وصولهم إلى المملكة على متن الخطوط الجوية الملكية، اعتباراً من 14 اغسطس/آب الجاري، بواقع 30 إلى 40 شخصاً يوميّاً، على أن يتم الانتهاء من نقل الألف لاجئ مطلع سبتمبر/أيلول المقبل. وتعمل جمعية "كاريتاس"على تأمين مكان إيواء اللاجئين، في الكنائس والأديرة، كما تتكفل تقديم الاغاثة والرعاية الطبية لهم.
يحمل اللاجئون الذين التقاهم "العربي الجديد"، ذاكرة متطابقة لتفاصيل التهجير القسري من الموصل، وتتشابك أحلامهم حول مصيرهم المستقبلي، الذي يريدونه بعيداً عن مدينتهم، التي لم تعد كذلك، كما يقولون، وبعيداً أيضاً عن الأردن، الذي يرون فيه مكان لجوء مؤقت، ينتظرون فيه حتى تتحقق فرصة انتقالهم إلى بلدان أوروبا وأميركا.
تشعر فريال داود، بألم فراق الموصل، التي تغادرها للمرة الأولى في حياتها. تقول: لم أغادرها بخاطر، لقد أجبرت، وأجبرنا كلنا على المغادرة. لم يعد لنا مكان هناك.
تحدد داود عام 2003، الذي شهد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، واحتلال العراق من القوات الاميركية، بداية زمنية للخطر الذي أصبح يطارد المسيحيين في الموصل. وتوضح أنه "من يومها بدأ التضييق على المسيحيين، عبر الخطف وطلب الفديات، مع ذلك لم نرحل عن الموصل، لكن هذه المرة، الأمر مختلف، داعش لا ترحم. وقد هربنا حتى لا نموت".
العجوز السبعينية، لا تفكر ولا ترغب في العودة إلى مدينتها، حيث خرجت منها بملابسها، مخلّفة وراءها بيتها، الذي بات، كما تظن، من أملاك داعش. كل ما تريد اليوم، اللجوء مع ابنها إلى أي بلد خارج المنطقة العربية، وفي أسوأ الاحوال البقاء في الأردن.
القناعة ذاتها، تتملك فخري جبرائيل، الذي وصل الأردن مع تسعة أفراد من عائلته، هم ابنه وابنته وسبعة أحفاد، إذ يجزم: العودة مستحيلة، حتى لو طردت داعش ورجعت بيوتنا، النفس لا تعود، لقد انكسرت نفوسنا. يرى الرجل السبعيني أن ما عاناه المسيحيون في الموصل، منذ سقوط نظام صدام، لا يقارن بالمعاناة التي عاشوها منذ سيطرة "داعش" على المدينة، في شهر يونيو/حزيران الماضي. ويوضح أنه "في اليوم الذي سيطر فيه التنظيم على الموصل، هربنا عند الساعة الثانية ليلاً إلى بلدة قرقوش خوفاً على حياتنا، ولكن بعد أن أعلن التنظيم مصادرة بيوت المسيحيين الفارغة عدنا إلى المدينة.
ويضيف أنه "في البداية، قال داعش إن المسيحيين سيعيشون بأمان، لكن مع الوقت ظهر العداء المذهبي، واعتدوا على الكنائس، وانزلوا عنها الصلبان، وضيّقوا على المسيحيين، واهانوهم، وكان كل يوم أسوأ من السابق". ويتابع "بقينا في المدينة حتى كبّرت المساجد يوم 17 يوليو/تموز، داعية المسيحيين للخروج من الموصل أو دفع الجزية أو القتل بحد السيف، ويومها خرجنا، ومن تأخر، قامت القوات التي نشرتها داعش بسلبهم كل ممتلكاتهم". وحده، الشاب العشريني، فادي يوسف، يبدو متفائلاً بالعودة إلى مدينته، لكن ليس عودة دائمة كما يقول، بل لـ"تصفية املاك العائلة وبيعها"، ويضيف "نريد مكانا نشعر فيه بالأمان الى الأبد، لا نريد ان نكون اليوم بأمان وغداً في خطر".
ويبقى أمل اللاجئين، ألا يطول انتظارهم في قاعة الكنسية، وأن يجدوا أنفسهم سريعاً في قاعة انتظار في المطار، لتقلًهم طائرة ما، إلى بلد لجوئهم الأخير.