حبَّات الزيتون في طفولتي
[إلى جدَّتي ماريَّا ساهر بنَّا،
وإلى دموعها التي جفَّت من كثرة بكائها على أرضها]
كلَّما عبرَتْ خطواتي رصيف هذا الشارع
"فلوخينسيو ليكيريسيا فالس"
أشاهد صورة مخفيَّة لطفولتي تطرقُ الباب الخشبيَّ الثقيل
لجدَّةٍ مسنَّةٍ تحمل في تجاعيدها وزر الحرب،
لأبٍ يُصلِحُ المحركات الميكانيكية،
لعمَّاتٍ ينسجن في مقاعدهنَّ قصَّة شعبهن،
لبئرٍ قديمةٍ تحفظ في بطنها دموع السماء وأنا
مستغرقاً تحت هذه الشجرة ومتعباً من أكل حبّات زيتون سرقتُها خلسةً
ربَّما لن تعود الجدَّة ذات التجاعيد العميقة أبداً لفتح الباب الخشبيِّ الثقيل
ولا سيكون طعم الزيتون في طفولتي هو نفسه تحت هذه الشجرة المعمِّرة المتعبة
والآن وأنا أعبر هذا الباب المعدنيَّ الجديد
بجانب المنضدة، ينزلقُ صوتٌ عذب يسأل:
ما الذي تريدُه أيها السيد؟
مندهشاً أطلب الزيتون
فيما ذكرى العائلة تعود بغتةً
إبراهيم
إبراهيم
أيُّها الحاجُّ الوقور
غادرتَ أرضكَ وأهلك يوماً
ووصلتَ أرضنا سانتا كروس دي لوريكا
كي أزرعَك هنا،
حيث كنتَ تزرع الصنوبر في هذه البساتين،
رجالٌ كانوا يأتون من المشرق.
وبأحزانك الإسبانية والعربية
كنت تتحمل بصبرٍ ألَّا ترى أكثر
"لبنان،
الشيخ ذو الرأس الأبيض، التاج الأبيض، الجبل الأبيض"
آه يا عبد الله
سرتَ من جديدٍ، لكن هذه المرة كي لا تعود.
وما زلتَ من ماضيكَ البعيد، تزرع شجر الصنوبر
الذي ما فتئ
يصلُ من الشرق.
أسوأ الأشياء
ثمَّةَ أشياء أسوأ من الموت
ضربة غير مرئية للمشاعر
أو هذه الروائح التي تنقلُنا يوماً بعد يوم
كفلاش باك في فيلمٍ مثيرٍ
ألمٌ قديم
أو كذلك الذي تنتظره ولا يصل أبداً
ثمَّة أشياء أسوأ من الموت نفسه،
عنادُ الجيوبِ الفارغة لأسابيع، دونما أمل
المعدة التي تلتهمُ ضحاياها الأحياء
بصرخات صامتة لن تستطيع قراءتها أبدأ في صفحة بيضاء
أو الإجابة التي لا تعود.
ثمَّة أشياء أسوأ من الموت،
العفاريت التي لم تعد تتحدَّث إلي
وخطواتها التي لم أعد أجدها.
بلدي
من كان أنطوان دي سانت إكزوبيري كي يعود للكتابة
أو الأمير الصغير حين ينطق: "يمكن رؤية الخير بالقلب فقط؛ والأشياء المهمَّة ليست مرئيَّةً للعين".
أؤكِّد لك دون أدنى شك، كان يجلب البلاد إلى حروفه التي مالت على كينونتي
بلادٌ ذات حدود محظورة، حيث الحزن والمنفى هي ظلٌّ ورمادٌ لماضٍ سحيقٍ من العزلة.
حيث الصداقة خاليةٌ من حديد كاوٍ.
بلادٌ وسط روحي
هي بلادي
الليالي هناك تتساقط أنهاراً وحكايا تروي أحلامي
لست بحاجة إلى تأشيرات باهتة ولا إلى جواز سفر عام كي ألجأ إليه
وكلَّ ليلةٍ، كالموسيقى أسافر في هذه المنطقة السريَّة، أسبح في قمر تلو قمر، كي أغسل ضميري المتَّسخ بيوم الموت القائظ الذي يسكن بلدك.
أقنعة
اليوم وصلتني رسالةٌ من جمهورية قريبة لمنفاي
لكن على هذه الضفة لا أراك ترغبُ في ثبوت الجسر
كيما تتمكَّن خطواتي من العبور
كان عليك أن تعرف أن الضفة في جمهوريَّتك مليئة بالحصى المنافق
هنا يعمُّ البُغض
في الروائح النتنة لكثير من المساءات الميتة
الكلب الحارس المعذَّب ذو الثلاثة رؤوس يزيد وهو في حضنك مخاوف الجحيم
الضفة ذاتها التي تجمِّد بها وجهك
في رخام المكتب القذر
حيث ملكة قزمة تحكم هذا الطين
قل لي: ماذا تفعل إن لم يظهر بريق ثمان وأربعين قمراً على وجهك
أحدهم قال لي إنك ستسخدم أقنعة تزيِّنُ بها بابك
أتعتقد أن بإمكانك أن تخدع من جديد
أم نسيتَ أنَّ كلماتي سيفٌ قاطعٌ
وثمَّة شيء أذكِّرُكَ بهِ
أين ستهربُ من قصائدي؟
وراء النافذة المشبكة
خلف النافذة المشبكة أراقب ببرودٍ ألبوماً من الصور
مؤطَّراً في رأسي كإرثٍ خالد لذكرى الأسلاف
هناك تتعايشُ صورٌ بلون الزعفران لذلك البيت
ذات الجدران المتشابكة والشرفة الأرابيسك التي سكنها آبائي.
وفي أي صباح فرَّت منه طفولتي عبر العيون الناعسة لتلك القطط الثمانين
تسوق الدراجة الخضراء التي جُلتُ بها العالم
لأمي تهمس تاريخ جدتي السفارديم التي جاءت من الخاما
للتي لم أعرفها مطلقاً
لأنها أخفت نظرتها العبرية في الجين الممسوح من روحِنا اليهودية
التي تهاجر لي حين أصلي
من جميلة عمتي ذات القلب العذب
المتوشِّح بوشاح فينيقي مطرَّزٍ بخيوطٍ من الطيبة
لأنَّها احتفظت لنا دوماً بطبقٍ من الحبِّ على مائدتها
بهؤلاء الأقارب ذوي الوجوه العربية المزيَّنة باللؤلؤ الصغير وجهل العيش
الذين سلبوا خُبزي يوماً ما ، لكن أبي الزمن صَرَعَهُم.
وتلك المرأة المسنَّة بشعرٍها الثلجي
تُهدهِدني بين ذراعيها بأغنية خامية
تجلب أسراباً من الطير الملوَّنة،
قادمةً من لبنان في النسيم المبتهج وحنين البحر المتوسط.
أسافر في زمنٍ بين بحرين،
في زمنٍ أبحر به أجدادي الذين أشعلوا نار الشعر
خلف هذه النافذة.