مسار 29 شهراً للفراغ الرئاسي اللبناني: الأحجية بلا حلّ

04 أكتوبر 2016
عون ينتظر انتخابه في جلسة الاقتراع البرلمانية الـ46(علي فواز)
+ الخط -
قبل أيام، استعاد اللبنانيون قطعة إضافية من أحجية "بازل" الحرب الأهلية. جال مرسوم ترقية أحد ضباط الجيش اللبناني إلى رتبة لواء ليشغل منصب رئيس أركان الجيش، على وزراء الحكومة العاجزة عن الاجتماع. وفي لحظة ارتفاع منسوب التفاؤل بانتخاب رئيس للجمهورية ليشغل المنصب الفارغ منذ مايو/أيار 2014، عادت لغة "المراسيم الجوالة" إلى المشهد. وهي لغة سمعها اللبنانيون في ثمانينات القرن الماضي، عند مقاطعة الحكومة لرئيس الجمهورية آنذاك، أمين الجميل.

استعادة قطعة جديدة من أحجية الحرب الأهليّة، لا تلغي أن ثمة بعض اللبنانيين يرون أن الأمور تتجه إلى حلول سريعة. وصل الأمر إلى أن يُحدد عضو تكتل التغيير والإصلاح (برئاسة النائب ميشال عون) النائب آلان عون، يوم السبت الماضي، عناوين العهد الجديد، إذ قال في كلمة بلقاء سياسي في فرنسا: "هناك تحديات اجتماعية واقتصادية كبيرة أمامنا، وعلينا إدخال إصلاحات على كل شيء في لبنان: القوانين، المؤسسات والإدارات والبنى التحتية، حتى لا تبقى ضحية التجاذبات السياسية، فهذه هي عناوين العهد الرئاسي الجديد".

عناوين العهد الجديد جاهزة. الرئيس المفترض يجلس في الرابية (مقر إقامة النائب ميشال عون) منتظراً انتخابه في جلسة الانتخاب الـ46، في نهاية الشهر الحالي، بعدما عطل مع حليفه حزب الله الجلسات الـ45 السابقة، عبر مقاطعتها. وفي هذا السياق، يُردد مسؤولون في حزب الله في جلسات خاصة، وفي اتصالات مكثفة يُجرونها مع عدد كبير من الصحافيين أن ميشال عون سيُنتخب رئيساً في جلسة 31 أكتوبر/تشرين الأول.

تتسارع عملية التسويق لانتخاب عون رئيساً، في الجلسة المقبلة. يقول المتفائلون إن رئيس الحكومة الأسبق، سعد الحريري، قرر السير في هذه الخطوة، على الرغم من أن مواقف معظم نواب كتلة المستقبل النيابية لا تزال سلبية. وقد وصل الأمر ببعض النواب إلى إبلاغ الحريري نيتهم اعتزال العمل السياسي إذا قرر ترشيح عون. ويُقلل هؤلاء من حدة موقف رئيس مجلس النواب، نبيه بري، الذي لا يزال رافضاً لانتخاب عون، ويتمسك بطرح "السلة المتكاملة"، لتجنب وصول رئيس تكتل التغيير والإصلاح إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية. وتتضمن هذه السلة إلى جانب الاتفاق على اسم الرئيس، الاتفاق على اسم رئيس الحكومة وتوزيع الحصص الوزارية داخلها، ومن يتولى الوزارات السيادية، والاتفاق على قانون جديد للانتخاب النيابية، وعلى القوانين والمراسيم التي يجب إقرارها للبدء بمرحلة تلزيم الشركات بلوكات الغاز في المياه الإقليمية اللبنانيّة. ويتجاوز المتفائلون تعقد المشهد الإقليمي وعدم حصول أي تطورات إيجابية على صعيد العلاقات بين المتصارعين من سورية إلى اليمن؛ وكأن البعض بات يعتبر الرئاسة شأناً لبنانياً خالصاً.


لكن هذا التفاؤل الانتخابي ليس جديداً على الساحة اللبنانيّة. والغزل بين الحريري وعون بدأ قبل انتهاء ولاية الرئيس السابق، ميشال سليمان. وفي مطلع عام 2014، بدأ عون والحريري حواراً من العاصمة الإيطالية روما. ما لبث هذا الحوار أن تعطّل، قبل أن ينطلق مجدداً عبر الاحتفال بعيد ميلاد عون في منزل الحريري في فبراير/شباط 2015. حينها رد عون على معايدة الحريري آملاً أن يكون اتفاقهما "ناجزاً مع نهاية زمن الصوم" (عيد الفصح عند المسيحيين في الربيع الماضي)، أي في إبريل/نيسان 2015. ولم يحصل ذلك.

خلال هذه اللقاءات، أنجز صهر عون، وزير الخارجية اللبنانية، جبران باسيل، وابن عمة الحريري، مدير مكتبه نادر الحريري، اتفاقات حول إدارة ملف النفط. وتُردد أوساط عديدة معلومات عن تأسيس شركات مشتركة بين الحريري وباسيل، للعمل في مجال النفط والغاز.

بين هذين اللقاءين كان مجلس النواب اللبناني يعقد جلسته الأولى، والوحيدة لانتخاب رئيس للجمهورية في إبريل/نيسان 2014. وقد وجد في صندوق الاقتراع 48 صوتاً لرئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، و52 ورقة بيضاء، و16 صوتاً لعضو اللقاء الديمقراطي، النائب هنري الحلو، وصوت للرئيس أمين الجميل و7 أوراق ملغاة. ومنذ تلك الجلسة فشل المجلس في الانعقاد بسبب عدم توفر النصاب القانوني نتيجة غياب نواب التيار الوطني الحرّ وحزب الله وتيار المردة عن الجلسات. فشل تواصل الحريري مع عون مرتين. وقيل إن وزير الخارجية السعودي الراحل، سعود الفيصل، وضع فيتو على انتخاب عون. واليوم يتكرر هذا التواصل للمرة الثالثة.

لكن التواصل مع عون لم يكن ورقة الحريري الوحيدة. فبعد دعمه جعجع لفترة محدودة، على الرغم من معرفة الجميع أن لا إمكانية لانتخاب جعجع في المجلس الحالي، وفشل تجربتين مع عون، اتجه الحريري صوب التفاهم مع رئيس تيار المردة النائب، سليمان فرنجية. وتوج هذا الأمر بتواصل بدأ سرياً ثم تحول إلى مبادرة لترشيح فرنجية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، دعمها كل من بري والنائب، وليد جنبلاط، وتوفر لها غطاء سعودي وفرنسي. في ذلك الوقت، روّج مقربون من الحريري أن ترشيح فرنجية، وهو الصديق الأقرب لرئيس النظام السوري بشار الأسد، وحليف للنظام ولحزب الله، جزء من تسوية إقليمية مع إيران في لبنان وسورية.

رُسمت حينها الكثير من الصور، التي تبيّن أنها غير صحيحة. في النهاية، نجح الحريري في إبراز خلاف حاد بين فرنجية وعون، بسبب رفض عون التنازل لصالح فرنجية. إضافة إلى خلق شرخ في العلاقة بين جمهور تيار المردة وحزب الله، إذ شعر هذا الجمهور بأن كرسي الرئاسة اقتربت إلى الحد الأقصى من زعيمهم، لكنه لم يتمكن منها بسبب موقف حزب الله الممانع لذلك، تحت عنوان الوفاء لعون. وأثبتت الأيام أن من أبرز العوامل التي ساعدت في ترشيح الحريري لخصمه فرنجية، يتمثل بالوساطة التي قام بها رجل الأعمال اللبناني، جيلبير شاغوري، وهو يعمل في قطاع النفط والغاز، وكُتب الكثير عن أدواره السياسيّة وتورطه في تبييض الأموال، وهو ممنوع من دخول الولايات المتحدة بسبب اتهامه بصلات مع منظمات إرهابية.

لم يكن الحريري وحده الذي يقود مبادرات سياسيّة ويفتح قنوات تواصل مع خصومه. على الرغم من أنه دفع الثمن الأبرز بين السياسيين اللبنانيين نتيجة انفتاحه على حزب الله وفرنجية وعون، إذ خسر الانتخابات البلدية في مدينة طرابلس، ثاني أكبر مدن لبنان، وفي بلدات أخرى. ذلك أن سمير جعجع وميشال عون، سرّعا وتيرة حوارهما الثنائي، على وقع تفاهم فرنجية ــ الحريري. رغب الرجلان في إفشال مسعى انتخاب فرنجية. عون يرى أن هذه فرصته الأخيرة لتولي الرئاسة، وأنه الأحق فيها، أما جعجع فيعيش في ظل الخلاف التاريخي مع وفرنجية والتنافس على مساحة جغرافية متقاربة في الشمال اللبناني.

وبعد أسابيع على ترشيح الحريري لفرنجية، أعلن جعجع من مقر إقامته في معراب، عن مصالحة تاريخيّة مع عون، أنهى فيها خلافاً حاداً وحروباً دموية عمرها عشرات السنين. وأعلن عن ترشيحه عون لرئاسة الجمهورية. وقد وقّع الطرفان ورقة نوايا مشتركة اعتبر عون حينها أنها ستكون جزءاً من خطاب القسم. ومن أبرز بنود إعلان النوايا: الالتزام بمرتكزات وثيقة الوفاق الوطني التي أقرّت في الطائف (1989) والتعهد باحترام أحكام الدستور كافة دون انتقائية وبعيداً عن الاعتبارات السياسية، والابتعاد عن كل ما من شأنه التلاعب بأحكام الدستور أو إساءة تفسيره، والعمل على تعزيز مؤسسات الدولة وتشجيع ثقافة الاحتكام إلى القانون والمؤسسات الشرعية لحلّ أي خلاف أو إشكال طارئ وعدم اللجوء إلى السلاح والعنف مهما تكن الهواجس والاحتقانات.

لم يكن اسما عون وفرنجية الوحيدين على الساحة، بل كانا الأكثر جديةً. ولا تزال الأسماء الأخرى مطروحة كأسماء توافقية على الرغم من حظوظها الضئيلة، ومن أبرزها قائد الجيش العماد جان قهوجي، الوزير السابق جان عبيد، سفير لبنان لدى الفاتيكان جورج خوري، وآخرون.

وإلى جانب حركة الحريري وجعجع، نشطت الدبلوماسية الفرنسية في محاولة منها لكسر الجمود حول الرئاسة. لم تصل هذه الجهود إلى نتائج إيجابية، وهو ما دفع جنبلاط إلى القول مراراً وفي محطات مختلفة، إن هناك قراراً سورياً (يقصد لدى بشار الأسد) بمنع انتخاب رئيس في لبنان، وفي أوقات أخرى قال جنبلاط إن القرار سوري ــ إيراني.

اليوم، يشكل بري وفرنجية العقبة الأهم أمام انتخاب عون رئيساً للجمهورية. لم ينسَ بري بعد قول عون الشهير في يوليو/تموز عام 2015، إن "المجلس النيابي غير شرعي بما فيهم أنا وغير قادر على انتخاب رئيس".

خلاصة السنتين وخمسة أشهر من الفراغ الرئاسي، تكسّر تحالفات 8 و14 آذار. أبرز حزبين في 14 آذار، أي تيار المستقبل والقوات اللبنانيّة، رشحا ألدّ خصمين لهما للرئاسة، كنتيجة لمبادرات سياسية تهدف لإنهاء الفراغ الرئاسي وإعادة العمليّة السياسيّة. في المقابل، يُصر حزب الله على موقفه أن أحداً غير عون لن يُنتخب رئيساً للجمهوريّة. ويستمر نوابه في التغيّب عن جلسات انتخاب الرئيس بالتنسيق مع النواب العونيين. ورفض حزب الله القبول بأقرب حلفائه، أي فرنجية. وعندما بات الطريق ممكناً أمام وصول عون، يتولى أبرز حليفين لحزب الله، أي فرنجية وبري منع عمليّة الانتخاب هذه.