مساجد كوسوفو.. مآذن لا تفصل الشرق عن الغرب

04 سبتمبر 2020
عامل يشارك في ترميم مسجد في بريشتينا عام 2012 (Getty)
+ الخط -

في السنة الأولى للهجرة، أي بحلول 622 ميلادية، تداعى المسلمون لبناء أول مسجد في الإسلام في قرية قباء التي حمل اسمها، جنوب غربي المدينة المنوّرة، حيث شيّدوه من الحجارة والطين وأعلوا سقفه بسعف النخيل، وهي المواد الخام المتوفّرة وقتها، وتتلاءم مع طبيعة المناخ الحار في المنطقة.

توسّع "قباء" خلال الحقب الإسلامية المتعاقبة وصولاً إلى اليوم وتمّ استخدام مواد جديدة جُلبت من أقاليم أخرى وتطوّر تصميمه البسيط كذلك، ويعدّ مثالاً حيّاً على التغيّر المهول في عمارة المسجد من فراغ متسع لأداء الصلاة تُلحق به بعض المرافق المكملة، إلى فضاء يحمل رمزية دينية وحضوراً للسلطة وهويّتها السياسية.

تحضر هذه الخلفية مع انطلاق الجدل منذ سنوات عدّة حول تشييد المسجد الكبير بمدينة بريشتينا في كوسوفو، بين أنصار العمارة العثمانية الذين يحنّون إلى حكم الأستانة الذي استمر زهاء خمسة قرون في البلقان، وبين معارضيهم الذين يميلون إلى تصميم يعبّر عن "حداثة" المدينة بوصفها جزءاً من القارة الأوروبية، وإن كانت غالبيتها من المسلمين.

إن تحدياً كبيراً يواجه الذين ينادون بابتكار لغة وهوية تخاطبان المسلم المعاصر عند بناء المساجد

حالة من الاستقطاب تشير إلى اختلاف يمتدّ إلى نظرة الكوسوفيين إلى هوية المجتمع والدولة إلى حدّ ما، في محاولة لهيمنة عنصر من عناصر تاريخهم وثقافتهم المتعدّدة على الآخر، في تغافلٍ عن بديهيات تتعلّق بالعمارة التي تخضع على الداوم لتبدلات وتغيّرات بحسب ما تمليه عوامل بيئية وأنثروبولوجية وجمالية أيضاً، وكذلك بحقائق تاريخية، أهمّها أن المساجد التي بناها العثمانيون كانت مزيجاً من عمارة محلية ومؤثرات شرقية معاً.

يقدّم مسجد سنان باشا في مدينة بريزرن، جنوب كوسوفو، والذي شيّده الأتراك سنة 1600، نموذجاً لعمارة مركّبة بين مؤثرات شرقية وغربية، ففي المرحلتين الأوليتين من بنائه صمّمت ثلاث قباب مغطاة بصفائح من الرصاص، ومدعومة بأعمدة صخرية، على أساس دائري، يقترب من العمارة الإسلامية التي تطوّرت عن نظيرتها البيزنطية. وفي المرحلة الثالثة، توسّع المسجد وفق الطراز الباروكي الذي انتشر في أوروبا، ويتضمّن الأشكال المنحنية والاستخدام المتقن والمعقد للأعمدة والمنحوتات.

ينسحب الأمر على مساجد أخرى في كوسوفو مع انزياحات قليلة شرقاً أو غرباً، لتمثّل تراكماً تاريخياً لمجموع الحضارات التي تعاقبت على المنطقة، وأن ظهور جوامع بطراز إسطنبولي أتى متأخراً في الدولة العثمانية نفسها، ليُبنى بعضها في البلقان بعد زمن طويل.

من جهة أخرى، فإن تحدياً كبيراً يواجه الذين ينادون بابتكار لغة وهوية تخاطبان المسلم في العالم المعاصر عند بناء المسجد، خاصة ما يتعلّق باستمرارية العناصر الرمزية الأساسية، مثل القبة والمدخل والمقرنصات، حيث يمكن تعديلها أو تحويرها من دون نسف التمثيل الكامن فيها، لكن تقييم نتائج ذلك يعتمد على ذائقة من يؤمّ المساجد وليس من يصمّمها.

ما المسجد الذي يعبّر عن هوية البلقان اليوم؟ سؤال لا تمكن الإجابة عنه بمعزل عن التصالح مع تعدّد المكان وتاريخه، وهي مسألة تتطلّب بالضرورة نقاشاً ينخرط فيه معماريون ومفكرون وأنثروبولوجيون ومؤرخون، ولا يُفرض تصميمه من علٍ.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون