مسألة عودة الشرعية في مصر (2-2)

13 سبتمبر 2017

صورة مرسي أمام جامعة القاهرة في أجواء احتجاجات (30/12/2012/Getty)

+ الخط -
كشفت الأزمة السياسية في مصر عن وجود فجوة مزدوجة، فمن ناحية كشفت عن محدوية إدراك جماعة الإخوان المسلمين والمعارضة لطبيعة الدولة وسلطاتها. ومن ناحية أخرى، مع طول فترة المعارضة في المنفى، ظهر اختلافٌ في موقفها تجاه مسألة الشرعية. وعلى الرغم من هذه التغيرات، لم يحدث تقييم للأداء السياسي، ومدى اقترابه من استعادة الشرعية أو الديمقراطية، وهو ما يثير التساؤل عن العيوب التنظيمية والفكرية التي تفسر الفقدان السريع للسلطة، وتراجع المعارضة.

الشرعية في يونيو 2013.

يمكن القول إنه على الرغم من شدة الأزمات التي اندلعت بين السلطات الثلاث، لم تظهر حلول حاسمة تنهي الخلاف والتصدّع السياسى، فلم ينقض يونيو/ حزيران 2013 من دون ترك مؤسسات الدولة في حالة متداعية ومقسّمة، كان أهمها أنه في ظل قرار تفويض وزير الدفاع بالتعبئة العامة (356/2012) فقد الرئيس محمد مرسي الكثير من صلاحياته، ولم يعد يتمتع بسلطة فعلية، وظهر فراغ في السلطة، بعد اهتزاز مشروعية مجلس الشورى، ومع عدم تحول المشروعية الانتخابية لشرعية فعلية.
كانت ذروة الصراع السياسي في إعلان اللجنة العيا للانتخابات عن عقد جلسة (26 يونيو/ حزيران 2013) للنظر في الطعن على قرار إعلان نتائج انتخابات الرئاسة، وهي من مسارات تفكيك الشرعية، لكن تصدّي الرئيس محمد مرسي للجنة العليا، دفعها إلى التنحّي عن نظر الطعن لاستشعارها الحرج، وهو ما لم يغيّر من مسارات الأزمة.
كانت المرة الأولى التي يستخدم فيها الرئيس مرسي وجود شرعية دستورية ملزمة للجميع في خطاب 26 يونيو، عندما أشار إلى وجود تهديد للثورة والسلطة، وتأثير سلبي للاحتجاجات على الاقتصاد، غير أن الاتجاه العام لخطاب الرئيس كان يميل إلى التهدئة مع مؤسسات الدولة، ومحاولة امتصاص الحراك السياسي للمعارضة، لكنه في صورة متماثلة مع خطاب الرئيس الراحل أنور السادات (سبتمبر/ أيلول 1981) ركز على أن المشكلة الأساسية تكمن في وقوف النظام السابق (حسني مبارك) وراء المشكلات التي تمر بها الدولة، ولم يأخذ في اعتباره عدم حدوث تغير في أجهزة الدولة.
كان التفاوت بين الخطاب والواقع يشير إلى فجوة في النظام السياسي القائم، وبينما أدت
المشكلات اليومية إلى تعطيل السلطة ومنعها من مزاولة صلاحياتها، عبّرت دعوات "إغضب يا ريس" عن حماسة غير مفهومة، فعلى مدى يتجاوز الساعتين، لم يتصدّ الخطاب لأصل المشكلة، أو طرح حلول جذرية، لكنه تناول تعديل الدستور، وتكليف المحافظين بإقالة المتسبّبين في الأزمات. وساد الخطاب حديث عن خصومه في قضايا ثانوية، كالفساد والتهرّب الضريبي، وظهر كأنه برنامج انتخابي، فيما كانت الدولة تعاني من انقسام، وعلى شفا انفجار سياسي، وهي حالة تعكس الإدراك الجزئي للأزمة السياسية، حيث تم اختزالها في ترتيب إجراءات الانتخابات التشريعية، في حين أن الأزمة مع الرئاسة. ولذلك لم ينجح الخطاب في امتصاص الاحتجاجات أو تهدئتها.
وفيما اعتبر أن من الإنجازات إقامة علاقات مدنية ـ عسكرية متوازنة تخدم التحول الديمقراطي، كان من اللافت أن الرئيس محمد مرسي لم يأخذ بيانات القوات المسلحة على أي نحوٍ من الجدية، وليست هناك مؤشرات على إدراك مدى التهديد والتحدّي الذي يواجه سلطته، سواء بقبول انتخابات مبكرة، أو اللجوء إلى فرض سلطته. كلا الخيارين لم يحدث، ولم تكن المبادرات وقتها على مستوى الأزمة.

المعارضة.. والإخوان والتحالفات
شكل الخطاب السياسي في اعتصام ميدان رابعة العدوية الأساس للخطاب السياسي للمعارضة، والاستعادة السريعة والكاملة للشرعية، حدا أدنى للتطلعات السياسية. ولذلك غلب الطابع الثأري من دون الاهتمام بالبدائل السياسية لاحتمال الإخفاق في تحقيق أهداف الاعتصام والمعارضة فيما بعد. ووفق هذا المنظور، يمكن النظر إلى فترة الاعتصام وما بعدها تطويرا لحالة الاستقطاب أكثر منها مساعي لاسترداد المؤسسات المنتخبة. ظهر الاستقطاب في كلمة المرشد العام، محمد بديع، عن أن وجود الجيش والإخوان المسلمين قوتين رئيسيتين، عسكرية واجتماعية في الدولة، يتطلب التفاهم حول مسألة الشرعية، وهي مقولةٌ حملت في طياتها تحدياً للمؤسسة العسكرية، بحيث شكلت أرضية الخطاب المنصّة فترة ما قبل فض الاعتصام، كما ظهر أيضاً في انحيازات الليبراليين وغيرهم ضد فكرة الاعتصام باعتبارها تعبيرا سياسيا.
خلال عامي 2014 و2015، ظلت تصريحات الإخوان المسلمين والمعارضة مفعمة بالثورية الجذرية الراديكالية وانتزاع الحرية. ولكن في الفترة اللاحقة، ظهر اختلافٌ في التغيير السياسي، ما بين الثورية التقليدية والبحث عن حل سياسي، لم تتجه المعارضة إلى حسم خياراتها. ولذلك ظهر اتجاهان، يتبنى أحدهما إسقاط الانقلاب عبر الثورة واستعادة الشرعية، ويتبنى الآخر إسقاطه عبر تحالفٍ واسع لا يشترط عودة مرسي.
وهو ما يثير النقاش حول الفجوة بين تطلعات المعارضة وواقعها السياسي، فعلى الرغم من المغالاة في الخطاب الثوري، تراكمت المشكلات التنظيمية للمعارضة، ما ساهم في انحسار فاعليتها السياسية والاجتماعية، مع وضوح انقسام "الإخوان المسلمين" في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2015، بحيث لم يتحسّن الأداء خلال السنوات التالية.
ويشير الاتجاه العام إلى بيانات جماعة الإخوان والمعارضة في المنفى إلى حالة متباينة؛ ركود فكري وطموح أيديولوجي، فخلال هذه السنوات ارتكزت الطروحات السياسية على استعادة الشرعية وإسقاط الانقلاب، سواء عبر ثورة أو نضال قانوني وسلمي، من دون وضوح المحتوى التغييري، أو سياسات إسقاط النظام. هنا يمكن الحديث عن خفّة الحمولة الثورية بصورةٍ تفسّر انحسار الحراك الشعبي، وتعدّد الكيانات المعارضة المتناقضة.
ومن اللافت، أنه على الرغم من تدهور فاعلية معارضة المنفى، كانت بيانات الإخوان المسلمين
تشير إلى وجود حالة عنفوان ثوري وحراك ميداني متصاعد وتضافر المصريين في الداخل والخارج، قد تكون هذه الدعاية متأثرة بتبنّي "الثوري المصري" (القريب من الإخوان) خطاباً راديكالياً حول مسألة الشرعية، إذ يعتبرها هدفا أصيلاً، لكنه لم يحقق أي إنجاز سياسي أو "ثوري" خلال السنوات الثلاث، فبجانب انقساماته التنظيمية، لم يتمكّن من بناء حراك سياسي. كان الأداء الضعيف لحركة غلابة (نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) كاشفاً عن التشوهات الجوهرية في البنية الفكرية والتنتظيمية وسوء التقدير السياسي. هذه الحالة واحدةٌ من نماذج العمل السائدة والمفرطة في الآمال الحالمة، على الرغم من انحصار تأثيرها بنطاق مقرّات الاجتماع والبيانات الصادرة عنها.
وبشكل عام، يبدو خطاب الإخوان المسلمين غير متناسق في التعامل مع الجيش، فقد يكون من المفهوم المطالبة بعودة الجيش إلى ثكناته من وجهة حياد دوره في العملية السياسية، غير أن إشارة "المجلس الثوري" إلى "تحرير مصر من احتلال العسكر" (المجلس الثوري، 14 يونيو/ حزيران 2017) تعكس انفراط سيطرة "الإخوان" على مفردات الخطاب السياسي، ما يتيح الفرصة لصراع مفتوح مع مؤسسات الدولة. قد يكون سوق الأمثلة كاشفاً عن مدى انفلات التفكير، وخصوصا لدى الإشارة إلى تجارب المصريين في التحرّر من الغزوين الفرنسي والبريطاني، وهي مقاربةٌ لا تميز بين الخلاف مع مؤسسات الدولة ومناهضة الاحتلال الأجنبي، وهي توجهات تؤسّس، على مستوى التفكير ومن دون وعي، لصراعٍ مزمنٍ تنعكس آثاره على المجتمع.
أثرت هذه التبيانات على موقع جماعة الإخوان المسلمين في التحالفات السياسية، فبعد مناقشاتٍ طويلة، دخلت جماعة الإخوان "الجبهة الوطنية"، من باب التوافق على الحد الأدنى لاستعادة الديمقراطية في عملية اصطفاف وطني. وعلى الرغم من ظهور جماعة الإخوان ضمن "الجبهة الوطنية"، رجع خطابها السياسي (بيان بشأن شرعية الرئيس، 4 يوليو/ تموز 2017) إلى مفردات كلام المجلس الثوري المتطلعة إلى التغيير الجذري، وصولاً إلى "إسقاط الانقلاب العسكري واستعادة الإرادة الشعبية". وقد يكون من المفهوم أن الجماعة تعبر عن خصوصيتها السياسية، لكن مشاركتها في تحالفات متصارعة (المجلس الثوري والجبهة) يعكس اهتزاز موقفها، وبصورة تكشف أن المشاركة في التحالفات أو بناءها صورة احتفالية، لا تخط مساراً يفتح آفاقا سياسية. تأرجح الإخوان بين تحالف الجبهة الوطنية والمجلس الثوري هو تعبير عن القلق بين الإصلاحية والراديكالية وانعكاس لغياب تصور عن أولوياتٍ وقتية أو استراتيجية.

رافعة الشرعية
ومن وجهة التكيّف السياسي، لم يؤد امتناع المعارضة و"الإخوان المسلمين" عن المشاركة في مسار ما بعد يوليو/ تموز 2013، لتحقيق ميزاتٍ سياسية، سوى الاستقرار على مقاطعة النظام القائم، لكنه لم يعزّز قدراتهم السياسية في طرح بدائل أخرى، فمن جهةٍ لم يتمكّنوا من تكوين إطار سياسي بديل. ومن جهة أخرى، ظلوا معزولين عن الترتيبات الجديدة، والتي تجاوزت الجدل القانوني حول توصيف بيان يوليو انقلابا أو ثورة أخرى. انعكس هذا الوضع على عزلة المعارضة في الخارج، وتراجع تأثيرها على السياسة الخارجية للدولة، حيث تقتصر اتصالاتها على منظمات حقوق الإنسان، وثمة قلق من حدوث تحول المعارضة للحفاظ على مكتسبات وقيم مضافة، لا علاقة لها بـ"الثورة".
وظهرت أزمة تكيف رئاسة الدولة مع أجهزة الدولة، سواء في السياسات العامة أو الأمنية
والدفاعية، مترافقة مع اهتزاز الخطاب السياسي للرئاسة و"الإخوان" بين الصدام والتقارب. لم يكن الصدام مع السلطة القضائية العلامة البارزة من نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 إلى إبريل/ نيسان 2013، لكنها تزامنت مع تأرجح مواقف الرئاسة تجاه المؤسسة العسكرية، ما بين رفض أي دور سياسي لها في الحوار الوطني ومحاولة التقرب منها في يونيو/ حزيران 2013.
تعطي هذه التصرفات انطباعاً بأن منظور الإخوان المسلمين للسلطة وإدارة الدولة لم يرتكز على توجهات مستقرّة، حيث دار بين التشدد والتراجع من دون خريطة سياسية. اتضح ذلك في تبني الإعلان الدستوري وقت صدوره، والقبول لاحقاً بتعديله، وبغض النظر عن الجدل حول تحقيق أهدافه في حماية الجمعية التأسيسية، فإنه أطلق الشرارة الأولى لطرح مسألة شرعية الرئيس ضمن المطالب السياسية، ما شكّل تحدياً أساسياً على مدى الفترة اللاحقة.
في الوقت الراهن، يقف السياق السياسي للمعارضة حائراً أمام أسئلة المستقبل، عن الدور وسياسات التصدي للمشكلات الراهنة، فعلى الرغم من مرور أربع سنوات لم تتضح خيارات "الإخوان" والمعارضة المصرية تجاه المستقبل السياسي للدولة، وركّزت على مطالب هي بطبيعتها احتجاجية، وبنما ركزت على المطالب التقليدية لإبعاد الجيش عن السياسة، ظلت مطالب استعادة الشرعية خاليةً من أي برامج أو سياسات، وذلك عندما فسّرت موقفها بالاستعادة المؤقتة الرمزية تعبيرا عن إرادة الشعب، من دون الاقتراب من واقعية هذه الصيغة ومدى تأثيرها في المشهد السياسي، وهو ما يعكس أن فريق الشرعية يمر بمشكلةٍ هيكليةٍ وفكرية، لم تكن تسعفها في الماضي والحاضر لإدارة عملية تغيير سياسي أو اجتماعي.
ما يمكن قوله أن الإخوان المسلمين والمعارضة ليسوا بصدد مسار تحول ثوري، بقدر ما يواجهون أزمة تكيّف ممتدة، فعلى الرغم من تغير الظروف والانتقال من السلطة إلى المعارضة، لم يحدث تطور، سواء في اتخاذ القرار أو في بناء السياسات، فمن حيث الاتجاه العام لم تعمل تجربة المعارضة المصرية على تطوير البنية الساسية، وتوفير شروط الديمقراطية التنظيمية، بحيث يمكن القول إن غياب الديمقراطية الداخلية والمحاسبة ساهم في استنساخ نظام سياسي هشّ ومرتبك لم يصمد أمام أعباء التحول السياسي، وهي عوامل ساهمت في تفكيك الشرعية السياسية، ثم تقويضها بحلول يونيو/ حزيران 2013، ومن ثم، لم يكن مفهوماً تمسك الرئيس مرسي بمنصبه، على الرغم من فقدانه سلطة الأمر الفعلية. وهنا، ظهرت مقارباتٌ تقوم على النمط القياسي للنظم الديمقراطية تفسيرا لإثبات الشرعية، وذلك على الرغم من أن التجربة المصرية هي في مرحلة جنينية، لا يتوافر فيها توازن السلطات واستقرار الأعراف الدستورية. كما أن محاولات استعادة السلطات الدستورية شهدت تراجعاً واضحاً على مدى أربع سنوات، على الرغم من التكلفة السياسية العالية. وبالتالي، كانت الخيارات التفاوضية المسار الأفضل لتسوية الأزمة السياسية.
لم يكن تراجع روافع "الشرعية" المظهر الوحيد للأداء السياسي. وتكشف مراجعة الخطاب السياسي لجماعة الإخوان المسلمين أن اختزال مفهوم الشرعية في نتائج الانتخابات يفسّر، جزئياً، النظر إلى المشروعية الانتخابية كمسألة عقدية، على الرغم من ارتباطها بمؤشراتٍ أخرى، في مقدمتها القدرة على فرض السلطة أو استعادتها، وهي شروطٌ لم تتوافر، كاملةً، وقت وجود الرئيس مرسي في السلطة. ولذلك، يفقد الإصرار على هذا النمط من التناول مصداقيته، وخصوصاً في ظل غموض مآلات أداء ما تبقى من المعارضة في المنفى، وميلها إلى التعامل مع مسألة "الشرعية" نوعا من التجارة غير السياسية، وهو ما يتطلب استدراك الحل السياسي والتفاهم مع الدولة على مرحلة أخرى.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .