مروة بن حليم.. فساد السياسة بمفردات المطبخ

17 مارس 2020
(من المعرض)
+ الخط -

في معرضها الفردي الأول "كتاب الطبخ"، تبدو الفنّانة المصرية الليبية مروة بن حليم (1992)، كما لو أنها فعلاً تطبخ اللغة لجهة المزج والتركيب والتخليق، فتزيحها من موقع العناصر الأولية الخاصّة بالاستعمالات الدلالية والتواصلية، منتجةً من هذا التخليط تكويناً هجيناً وعبثياً؛ الأمر الذي يجعل زائر معرضها مشغولاً لا بفكّ معاني العبث الناتج تحديداً، بل بالبحث عن دوافعه وأسبابه وما يرومه.

وإذ يكون أوّلَ ما نراه من معرضها هو جملة "شكراً لكم"، التي تكون في الغالب ختاماً لأي خطاب كان، فإننا نعجب كوننا نكتشف أنَّ المنحوتة الرخامية المثبّتة على الحائط هي جزء من سياق المعرض ذاته. وتزداد الغرابة إذ نعرف - من خريطة مسار المعرض - أن هذه الجملة المنحوتة تحمل الرقم 1 في ترتيب المشاهدة.

هذه العتبة الأولى ستكون تمهيداً معقولاً لما سيؤول إليه هذا الانزياح الاستعمالي للكلمات والجمل، وسيزول العجب والغرابة شيئاً فشيئاً مع تقدُّمنا في جولة العرض الذي أخرجه فنّياً قيّم المعرض، الفنّان والباحث أحمد شوقي حسن.

المعرض الذي افتُتح في فضاء "مدرار للفنون المعاصرة" بحي غاردن سيتي القاهري، في الأوّل من مارس/ آذار الجاري ويستمرّ حتى السادس والعشرين منه، يضمّ عدداً من الأعمال تنوّعت بين منحوتات الرخام، والسيليكون، والحفر على الخشب، والفيديو، وتجهيز الفيديو في الفراغ، وكلّها مشغولة بثنائية القوّة والضعف في عملية إنتاج الخطاب اللغوي، لكن براعة بن حليم تكمن في أنها تتوخّى ذلك عبر لغة الطعام، بتبيِئَة مفردات الطبخ في صلب اللغة الميكانيكية للخطابات الرسمية، ومن ثمّ تتحوّل هذه الخطابات إلى "مسخرة" متكاملة الأركان قوامها العبث بمفرداتها.

سنسمع في أحد أعمال المعرض، مثلاً، عن "أزمة انخفاض منسوب الكرنب، وتصحُّر القرع العسلي، وإرهاب البطاطس، وهجرة الخس، وقرصنة الخيار، والرمّان الذي صنعه الإنسان، ووباء الفلفل، وتكاثر الطماطم"، ويمكن هنا طبعاً ملاحظة الحسّ السوريالي في توليف كهذا، غير أن سورياليتها حصراً لا تتأتّى من مجرّد عبادة الخيال دون المعنى، إنما وأساساً لتخلق كوميديا تم تركيب مكوّناتها بوعي؛ إذ عمدت بن حليم - كما يقول قيّم المعرض - إلى البحث في لغة الجماهير السياسية بمجازاتها الآتية من حقل الطعام (الوساطة والمحسوبية باعتبارهما "كوسة" مثلاً، كما يسمّيها المصريون)، ثم أجرت ما يشبه مسحاً وحصراً لعدد كبير من الأمثال الشعبية الخاصة بالطعام، وعبر عمليّتَي الإحلال والتبديل بتسكين مجازات الناس المطبوخة في اللغة الرسمية سابقة التجهيز، أو حتى تحويل لغة الطبخ نفسها إلى لغة رسمية، تتأتّى مسخرة السياسة أو المسخرة السياسية.

وإلى هذا الخرق اللغوي، وإعادة التحرير والترتيب، الذي لا يخلو من طرافة، على مستوى تخليق المعاني، فإن بعض الأعمال مثّلت في وجودها الفيزيائي نفسه صورة لهذا التخليط الميكانيكي في الخطابات الرسمية؛ سنشاهد أعمال حفر على الخشب المسطّح كأنها مسوّدة خطاب مكبّرة، تم التلاعب بكلماتها عبر الحذف والشطب والإضافة والتصحيح بتقنية الحفر الآلي، وهي في صرحيتها الضخمة وطريقة عرضها المائلة للأمام تبسط هيمنتها على المشاهد، بالإضافة إلى صورة الحفر الخشن نفسه الذي هو استعارة من تخشّب الخطابات الرسمية.

ومن هنا تحديداً سيكون علينا العودة للتدقيق في الملصق الطريف للمعرض، الذي بدا هو الآخر صفحة حافلة بالإضافة وتظليل الأسطر كما لو كانت مسوّدة أولية للتصميم، وعندها يتّضح أنّ الملصق لم يكن يطرح تصميماً طريفاً فقط، إنما كان التصميم ذاته جزءاً من الحالة التي يقدّمها المعرض ككل؛ وعلى هذا يمكن اعتبار الملصق أوّل القطع الفنية في هذا المعرض.

آخر ما يطالعنا في "كتاب الطبخ"، للفنّانة المصرية ــ الليبية، هو فيديو لبرنامج طبخ مزيّف تحت عنوان "جمهورية الأفكار المأكولة تقدّم العشاء"، مجرّد محاكاة ساخرة لبرامج الطبخ، لكن مكوّنات الطبخة التي تعدهّا مقدّمتا البرنامج ما هي إلّا توليف مقزّز لمتنافرات العناصر الغذائية مع بعض مخلفاتها (ريش الدجاج مثلاً مع الخُضَر)، فيما تنشغل الطبّاختان بملء مساحة البرنامج بحديث جادّ جدّاً لتوصيف كلّ طبخة؛ عن "فترة إمبريالية الفيتامينات السائلة؛ لقد كانت الفترة التي أُصيبت فيها الملوخية بالحيرة في أغراضها وطموحاتها"؛ أو "أثبتت حرب الحساء الباردة أن ضحايا عدوان الخلّاط لديهم جيوشهم الخاصة، وأنّ لهم مؤيّدين في كلّ مكان في العالم".

ومن هذه السخرية الحازمة، وأمام الصورة البصرية المبهرة بنقائها على الشاشة، يتكشّف معنى القوّة: قوّة الكلمات التي تأتي من قوّة من ينطق بها، حتى لو كان ما يقوله مجرّد كلام فارغ، ليس من ورائه هدف إلّا شغل مدّة الحلقة، أو "ملء الهواء"، بحسب التعبير المصري الشائع.

أين المعنى في كل هذا إذن؟ أو بحسب بيان المعرض "كيف يمكن الحديث عن شيء دون التحدّث عنه؟ وفقا لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، فإن ما يعطي للكلمة المنطوقة شرعيتها هو المتلقي، وإذن فإنّ أقصى درجات الانسجام عندما يتوق المتلقي أن يقصّ عليه الراوي قصة…."، لكن بن حليم نفسها لا تقص حكاية، إنما تفجّر عناصر الحكاية من داخلها، بمسخرتها، بتلطيخ وجه الحكاية الرسمية ليس في مكوّنات الطبخ، بل في عجنها بزبالته، فلا يكون النتاج إلا ابنا من جنس المصنوع، من مادة الهواء الفارغ.

وبعطف تعبير "ملء الهواء"، في برامج البث المباشر، على مثيله في إطلالات أصحاب المناصب الرسمية لإعلان السيطرة وبسط النفوذ ليس إلّا، بغض النظر عن منطوق الكلام، إذ القائل يستولد اللغة من مجرّد القوّة التي يحوزها بمكانه: برنامجَ طبخٍ كان أو خطاباً رسمياً؛ من كل ذلك يمكننا أن نستطعم معنى "ميكانيكية خطابات التلفزيون الرسمية"، حيث الخطابات تلك ما هي إلّا "طبيخ بايت"، إذا استعرنا التعبير المصري المعروف.

المساهمون