مرارة الانزياح شرقاً

25 سبتمبر 2015

تراجع الاقتصاد الصيني لا يغيرمن تحولات النظام الدولي(العربي الجديد)

+ الخط -
لا بد لمن يتابع الإعلام الغربي، هذه الأيام، أن يشتمَّ منه رائحة الشماتة إزاء تعثّر مسيرة النمو الاقتصادي الصيني، المستمرة منذ أكثر من ثلاثة عقود. فهناك من يتحدث عن انفجار الفقاعة، وهناك من يتحدث عن انهيار التنين الذي شكّل قاطرة الاقتصاد العالمي في العقد الأخير، إلى غير ذلك من توصيفات وتقديرات، بعضها واقعي وأكثرها رغائبي. طريقة التعاطي الإعلامي مع الأزمة التي يعيشها الاقتصاد الصيني، اليوم، تعكس في عمقها شعوراً بالمرارة لدى دول الغرب الصناعي إزاء التحولات الاقتصادية الكبرى التي يشهدها العالم راهناً. تفيض هذه المشاعر، على الرغم من أن هذه الدول تدرك، أكثر من غيرها، أن طبيعة النظام الدولي لا تسمح بتركّز القوة والثروة في مكان واحد فترة طويلة. وتكفي نظرة سريعة على تاريخ الأمم الأوروبية، خلال القرون الثلاثة الماضية، حتى تتبيّن درجة المقاومة التي يبديها النظام الدولي تجاه حالة استقرار القوة وتركّز الثروة. ففي مطلع القرن الثامن عشر، احتلت فرنسا الكاثوليكية مكانة متميّزة بين نظيراتها الأوروبيات، مستفيدة من عدد سكانها الكبير نسبياً، والثروة التي امتصتها من عروق مستعمراتها، لكنها سرعان ما بدّدت هذه الثروة، عبر مغامرات عسكرية وأحلام إمبراطورية (بلغت الذروة في عهد نابليون)، أنزلتها عن عرشها، وتركت الساحة خالية لخصمها اللدود بريطانيا.
في الفترة نفسها تقريباً، كانت بريطانيا البروتستانتية تعد من أفقر دول أوروبا الغربية، لكن الثورة الصناعية ساعدتها في إعادة توزيع الثروة في القارة، من خلال تصدير المنتجات المصنّعة إلى دول جنوب أوروبا الكاثوليكية. ونتيجة لذلك، انتقل الذهب الذي جنته إسبانيا وفرنسا من مستعمرات العالم الجديد ليستقر في انكلترا، ما مكّنها من بناء إمبراطورية، امتد بها العمر إلى منتصف القرن العشرين.
خلال الحرب العالمية الثانية، تحوّلت أوروبا إلى سوق لصناعة الأسلحة الأميركية التي استفادت من تناحر الأمم الأوروبية، بعيداً عن أراضيها لإعادة توزيع الثروة على ضفتي الأطلسي، وكان من نتيجة ذلك أن أفل نجم الإمبراطوريات الأوروبية، وبدأ عصر الهيمنة الأميركية، وحل الدولار محل الجنيه الإسترليني، عملة دولية ربطت الاقتصاد العالمي بالاقتصاد الأميركي.
منذ مطلع الألفية الثالثة، بدأت ترتسم ملامح تحولات كبيرة في النظام الدولي، تنبئ بإعادة
توزيع جديد للثروة على مستوى العالم، من خلال بروز نجوم اقتصادية ناشئة، بدأت تأخذ مكانها بين كبار العالم. وعلى الرغم من أن الاقتصاد الأميركي ما زال يتربع على خريطة العالم بناتج محلي، يقدّر بـ17.5 تريليـــون دولار، وهو رقم يساوي تقريباً مجموع الثلاثة الكبار بعده في الــترتيـــب، أي الصين (10.4) واليابان (4.6) وألمانيا (3.8)، إلا أن الولايات المتحدة تحولت، في العقدين الأخيرين، إلى سوق كبيرة للبضائع الرخيصة المصنّعة في الصين والهند بشكل خاص. وعليه، بدأ الحديث يتركز الآن على دول نامية، أخذت تحتل مراتب متقدمة بين الاقتصادات العالمية الكبرى، متجاوزة دولاً صناعية غربية عريقة، مثل البرازيل التي أزاحت إيطاليا عن المرتبة السابعة، فيما احتلت الهند المرتبة التاسعة، دافعة بكندا إلى المرتبة 11 بعد روسيا، وذلك وفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي للعام 2014.
وعلى الرغم من أن الحكم لا يزال مبكراً على البرازيل، نظراً لاعتمادها المفرط على النشاط الاقتصادي الصيني، بعد أن تحولت إلى أكبر مورّد للمواد الخام إلى الصين، يتوقع أن تشكل الهند والصين (على الرغم من متاعبها الراهنة) معاً ما يقارب 20% من الناتج الإجمالي العالمي، بحلول عام 2020. وعليه، سيشهد العقد المقبل، على الأرجح، تغييرات مهمة في هرم الاقتصاد العالمي، بحيث إننا قد نرى تشكيلة جديدة في اجتماعات القمة للدول الصناعية الكبرى، قد لا تكون بينها أي من الدول التي تتربع، اليوم، على عرش النظام الاقتصادي العالمي (إذا استثنينا طبعاً الولايات المتحدة).
وكان المفكر اليساري الأميركي الشهير، إيمانويل والرشتاين، لفت، في سبعينات القرن الماضي، إلى هذه الدينامية في النظام الدولي، من خلال مجموعة أفكار وضعها في نظريةٍ، أطلق عليها اسم "نظرية النظم الدولية"، وتعرف أيضاً بنظرية "المركز والأطراف"، وشكلت مفصلاً مهمّاً في دراسات تاريخ النظام الدولي، وأسهمت في تحقيق فهم أفضل لحركيته وتغيّراته. يرى والرشتاين أن النظام العالمي يتألف من ثلاث دوائر أساسية: المركزية ونصف المركزية والخارجية أو الطرفية. تتألف الدائرة المركزية من القوى الاقتصادية والعسكرية الكبرى المهيمنة على النظام العالمي، في حين تتجمع في الدائرة الثانية القوى الإقليمية المهمة التي تمتلك اقتصادات نصف متطورة، أما ما تبقى من دول فتقع في الدائرة الخارجية، وهي في معظمها دول نامية فقيرة، لا يعتد بها، وتعيش على الهامش. لكن والرشتاين يرى أن هذا النظام يتمتع بدينامية عالية، حيث تتنافس الدول على الاقتراب من المركز، من خلال تطوير اقتصاداتها وقواها العـسكرية والتكنولوجية. وفي الوقت الذي تتراجع فيه إمكانات دول المركز، فإنها تخرج، في شكل تلـقائـي، مـنه، بـدفع من القوى التي تسعى إلى الدخول إليه. وعليه، بمقدار ما يتمتع المركز بقوة جذب كبيرة، فهو أيضاً يتمتع بقوة نبذ توازيها في القوة. وهكذا، تدخل إلى المركز دول، وتخرج منه أخرى، لتستقر في الدائرة نصف المركزية، وربما يتم طردها إلى الأطراف. يحصل هذا الأمر في كل الدوائر التي تشهد حركة دائـمـة، يشـكـل الـصراع والتـنـافـس الـمـحرك الأسـاسـي لـهـا.
جاء في دراسة أعدها مجلس الاستخبارات القومي الأميركي، تحت عنوان "الاتجاهات العالمية في 2025"، أن العقدية المقبلة ستكون فترة انتقالية نحو نظام عالمي جديد، حيث ستنضم الصين والهند إلى الولايات المتحدة على رأس القوى الكبرى، أما روسيا فوضعها، قوّة كبرى، غير مؤكد، بينما ستصبح دول، مثل تركيا وإندونيسيا، من بين القوى المؤثرة عالمياً. أما النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية فستنطمس معالمه تماماً، بحلول عام 2025، بسبب بروز القوى الجديدة الصاعدة، وعولمة الاقتصاد، والانتقال التاريخي للثروة من الغرب إلى الشرق.
وفيما يبدو أن شماتة الإعلام الغربي بالتعثر الراهن للاقتصاد الصيني لن تغيّر من حقيقة أن النظام الدولي في طور التبدّل والتغيّر، ولا من المرارة الناشئة عن رسوخ هذه الحقيقة، سوف يكون مفيداً، لا بل واجباً، الالتفات والتخطيط عربياً، خصوصاً في منطقة الخليج، لمرحلة يسدل فيها الستار على 500 عام من هيمنة الغرب الصناعي، والانتقال إلى أخرى، حيث يصبح الشرق الآسيوي مركز الثقل والقرار المالي والاقتصادي العالمي، ما يعني استتباعاً تنامياً، أيضاً، في دوره السياسي والعسكري على المستوى الدولي.