مذهب الإنكار في السياسات الفلسطينية

05 أكتوبر 2017
+ الخط -
طوت التجربة السياسية الفلسطينية محطات تاريخية فارقة، تنقّلت خلالها بين الانتصارات والهزائم، وبين الوحدة والانقسام، وبين فكر الثورة ومنطق الدولة، وبين متطلبات النهوض ومتواليات التعثر. إثر كل محطةٍ، كانت تُنتج تحولاتها العميقة، على القضية الوطنية، وأحوال أهلها، كانت عقيرة المطالبة بالمراجعات النقدية، لِما جرى خلالها وتداعى عنها، ترتفع في خطابات القيادات الفلسطينية نفسها، التي لم يبارح أغلبها مواقع المسؤولية في أغلب تلك المحطات. سرعانَ ما يُستعاض عنها، بالعودة إلى زمن الثورة الأول، واستخدامه العتلة التي تجرُّ خلفها كل الانكسارات والخيبات. لولا قلّة من مجتهدي الفكر النقدي، الباحثين عن الحقيقة، في متن تلك المحطات المفصلية وهوامشها، واستخلاص دروس وعبر كلٍ منها، ما كنّا سنجد من أدبيات الفصائل الفلسطينية عنها، سوى مُنافسة محمومة على تعمية الوعي الفلسطيني، من خلال سرديّات حزبيّه، تنقضها الحقائق الموضوعية الصلبة. على هذا النحو، فتحت أجيالٌ فلسطينية عيونها، على رواياتٍ فصائلية متعدّدة ومتضاربة، تنوس بين تبرير مسؤولية الشق الفلسطيني عن تلك الأحداث، بمجرد أن يكون طرفها الآخر إسرائيلياً، أو عربياً، ونسج اتهاماتٍ من الشيطنة المتبادلة، حين تطبع الأطراف الداخلية الفلسطينية هويّة تلك الأحداث. تؤكد أمثلة وشواهد عديدة أن نزعة تعويم الحقيقة، بهدف إنكار مُستحقاتها، هي البؤرة المسكوت عنها، في دفاع الوعي الفصائلي عن شرعيته التاريخية الكليّة، وتوظيف النقد والمراجعة والمساءلة، في اجترار آليات تدوير الأزمات، ثم رَكن قيمتها المعرفية والعملية في رفوف التاريخ.
مضى أكثر من أربعة عقود ونصف العقد على أحداث الأردن، والمجازر التي طاولت الفلسطينيين وقتذاك، بسبب الصراع الضاري بين النظام الأردني والمقاومة الفلسطينية. لم نسمع حتى الآن اعترافا من القوى الفلسطينية التي رفعت شعار "كل السلطة للمقاومة" يوضح على الأقل نصيب هذه القوى، وما أنتجته ممارساتها تحت هذا الشعار، من محصلات مأساوية 
اقترنت به، من دون أن يحجب مثل هذا الاعتراف مسؤولية الطرف الأردني عنها. بل يغدو إنكار الشعار والممارسة التي انطوت عليه مناسبةً لإغلاق كل أبواب المساءلة المطلوبة، أمام شعبٍ عليه أن ينتقل من مأساة إلى أخرى، من دون أن يُطلّ على الحقيقة الكاملة، لكي لا تصبح ثقافة المحاسبة سلاحه في مواجهة من أضروا بحقوقه ومصالحه. على ضلالة مذهب الإنكار أيضاً، كشف التعامل مع محطة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 عن ثورةٍ تناهض عقلها النقدي، حين تواظب على إقفال التساؤلات المريرة، حيال الشروخ العميقة في بنيتها التنظيمية والعسكرية التي مكنّت القوات الإسرائيلية، في اليومين الأولين من اجتياحها، من السيطرة على مواقع في جنوب لبنان، تغصُ بألوف المقاتلين الفلسطينيين، بعد هروب القيادات العسكرية بشكلٍ مهين.
توارت الأجوبة على تلك التساؤلات، والشكوك الكبيرة التي حفّت بها، خلف ضجيج "الخروج المُشّرّف" من بيروت، ومعه احتجبت مسؤولية قادة الفصائل، عن مكامن الإخفاق والفشل التي كشفت عنها جلياً، الخواتيم المأساوية لمحطة الثورة في لبنان. بيد أن غبار المراحل التي تلت، لاسيما بعد اجتراح مسار الانتقال، من الثورة إلى الدولة عشية "أوسلو"، غطى على أية محاولة جديّة لإصلاح المشروع الوطني، ومعالجة مخلّفات الهزائم، والانقسامات التي ألمّت به. المثير للمفارقات المؤلمة، بعد وضوح سياسة الهروب إلى الأمام، في زمن البحث عن الدولة، أن كل قادة المراحل الفلسطينية، حسب أدوارهم التاريخية، شاركوا معا على اختلاف مواقفهم وتوجهاتهم، في إزاحة الوعي الجمعي الفلسطيني، عن معرفة العوامل الحقيقية التي تراكبت، وأنتجت طبقةً سياسية بطريركية، تتفلت من الاعتراف بأخطائها وخطاياها، في حين يزيدها قصور الرؤية وفشل الأداء هالة متجدّدة من الزعامة والرمزية التاريخية. تستوي في هذه السمات الفصائل التي انشقت عن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وقاطعتها ردحاً طويلاً من الزمن، لأنها، حسب زعمها، فرّطت بالثوابت الوطنية، حين قبلت خيار التسوية والمفاوضات. بينما في مواقف تلك الفصائل "الراديكالية" وسلوكياتها، ما يدحض خطابها الشكلي، بعد فشلها في أن تكون بديلاً ثورياً عن القوى التي ادعت مناهضتها، والأنكى تحوّلها أوراقا للمتاجرة بيد الدول التي تدعمها.
في المقابل، اتخذت حركة فتح من الواقعية السياسية منطلقاً للذهاب إلى خيار الدولة، وأقامت 
سلطةً مقيدةً تحت حراب الاحتلال، لم يرَ فيها الأخير أكثر من جهاز شرطة لحماية أمنه، ومؤسساتٍ تعفيه من تحمُّل كلفة احتلاله. طوال أكثر من عقدين على زمن السلطة الوطنية، حصل فيهما انقسام قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتراجعت خلالهما مكانة منظمة التحرير ودورها، وما نجم عن ذلك من إهمال متمادٍ لقضية اللاجئين، لايزال خطاب فتح / السلطة قائماً على إنكار المخاطر الكبيرة التي جلبها مشروع السلطة على الكُل الوطني، ولايزال أصحابه من الفصائل المشايعة له، يتخبطون في شرح العلاقة الملتبسة بين الأوهام التي روّجوها والحقائق التي تكشّفت عنه، ولا يكفون أيضاً عن إنكار دورهم في كل هذا الالتباس. لا تشذّ عن مذهب الإنكار القائم على تجهيل الصلات بين الماضي والحاضر دلالات المصالحة الفلسطينية أخيرا في القاهرة، حيث التم شمل الأخوة الأعداء مجدّداً على وقع الهوة التي صنعوها بأيديهم، وباعدت بين حساباتهم ومصالحهم وهموم الشعب الفلسطيني. لا كشفَ حساب تقدمه حركة حماس عن مسؤوليتها في الانقسام، وهي التي برّرته، حين انقلبت على السلطة، بفساد الأخيرة، فيما قدمت نموذجاً في حكم غزة طوال أكثر من عشر سنوات، ضاعف من معاناة الغزيين ومشكلاتهم، وتحوّل إلى مأزق يستغله هذا الطرف أو ذاك. لا أحد من قادة القفز على المحطات يعترف بمسؤوليته عن التدهور الكبير الذي أصاب المشروع الوطني الفلسطيني بكل مفاصله. لا حلول تعالج مشكلات الواقع الفلسطيني، وتجيب على أسئلته المستعصية، طالما أن الإنكار سيد الموقف الذي يجتمعون عليه.
1F86476B-6299-4727-A429-3D775512D77D
أيمن أبو هاشم

محام وكاتب فلسطيني، رئيس هيئة اللاجئين في الحكومة السورية المؤقتة