مذاقات "أبو إلياس".. قصة نجاح مطعم لبناني في كندا

27 فبراير 2016
الحرب الأهلية دفعت أبو إلياس للهجرة (العربي الجديد)
+ الخط -
ربع قرن مر على ولادة "أبو الياس" في كندا. المطعم المعتمد لكثير من ربّات المنازل في مونتريال أضحى مقصداً لهواة المأكولات "الغريبة". وراء الاسم قصّة شيّقة تبدأ من لبنان - الحرب الأهلية

لا تجد مونتريال سبيلاً للحياة من دون بردها القارس. المدينة التي عاشت خريفاً وبداية شتاء معتدلين هذا الموسم، حظيت بحصة سخية من الثلج أخيراً: عاصفة بيضاء أرخت عليها غطاءً كثافته 40 سنتم. الثلج لا يفارق الطرقات هذه الأيام، تُغذّيه موجات برد متفرّقة تتخلّلها لحظات شمس دافئة تُنسيك في بعض الأحيان أنك تعيش في إحدى أصقع المدن الحديثة في العالم.

إحدى الزوايا الشهية في المدينة التي لا تتعب الجالية اللبنانية تحديداً من زيارتها هي زاوية "أبو الياس"، الملحمة التي تحوّلت مطعماً وأضحت مقصدك الأول لتذوق طيبات اللحوم النيئة والمشاوي المحضرة على الطريقة اللبنانية.

25 عاماً مرت على تأسيس هذه المؤسسة الصغيرة التي يديرها المبادر اللبناني صاحب الاسم الشهير، بالتعاون مع ثلاثة أشقاء وبمساعدة مجموعة من الموظفين. سنوات طويلة "بدأت بالتعب والصعوبات، وتصل بنا اليوم إلى تحوّلنا إلى اسم يعرفه الجميع ويقصدونه من كافة الأقطار".

"يزوروننا من شيكاغو، من نيويورك، من تورونتو، وحتى من كاليفورنيا، سياح يقضون إجازات في مونتريال لممارسة رياضة التزلج أو لزيارة الأصدقاء والعائلات" يشرح محمد مصطفى، وهو الاسم وراء الكنية الشهيرة.

الصيت الذائع لأبو الياس اكتسب زخماً إضافياً خلال الآونة الأخيرة مع قيام أندرو زيمرن من البرنامج الأميركي الشهير، "مأكولات غريبة" (Bizarre Foods) بتخصيص جزء له من حلقته الخاصة بمونتريال على القناة المختصة بالسفر والترفيه "The Travel Channel".

استغرق بناء هذه السمعة ربع قرن من العمل الحثيث والمثابرة. القصّة بدأت من رحم الحرب اللبنانية قبل أن تتحول إلى مغامرة ناجحة في الاغتراب.

قبل الأحداث كانت عائلة محمد مصطفى تعيش في منطقة فرن الشباك. كان ذلك سلوك عائلات جنوبية كثيرة نزحت إلى المدينة واستقرت في قلوبها العديدة، وليس فقط في أحزمة النزوح الشهيرة التي تحولت إلى إحدى العقد الجغرافية الديموغرافية في فترة ما بعد الحرب. "صديق الوالد وشريكه في العمل، كان اسمه الياس، وقد نمت معي كنية أبو الياس منذ الطفولة؛ ووفاءً لتلك الأيام، للذكريات ولمعاني العائلة أسميت ابني البكر تيمناً بصديق الوالد".

بعد اندلاع الحرب مباشرة انتقلت العائلة إلى الضاحية الجنوبية للعاصمة، وتحديداً قلبها، حارة حريك. خطوط التماس رسمت واقعاً جديداً ليس لآل مصطفى وحدهم بل لكل لبناني وجد نفسه في المقلب الآخر من طاولة الشطرنج اللبنانية. "يُمكنك القول إننا عشنا الحرب بكل أوجهها من الاحتلال وصولاً إلى بدايات الحروب المتفرقة اللاحقة بين اللبنانيين في النصف الثاني من الثمانينيات".

خلال تلك الفترة كان أبو الياس موظفاً مرتاحاً، وعائلته تدير مطعماً/ ملحمةً في منطقة الجناح. "صراحة، كانت لدي رؤية متشائمة جداً حول مستقبل لبنان، كنت أراه ملوّثاً بالسواد لفترة طويلة". هكذا، وبالتوازي مع انطلاق موجات الصراع المسيحي - المسيحي، والإسلامي - الإسلامي، عام 1986، "هاجرت إلى كندا". عائلته الصغيرة المكونة من الزوجة والطفلين لحقته بعد ذلك بعام واحد.

الاستقرار كان معقداً في البداية. لقد ترك محمد، وهو خريج كلية الحقوق وكان يشغل منصب مدير إحدى مكاتب شركات التأمين في لبنان، حالة استقرار نسبي في بلده الأم، وأضحى هائماً في بلاد الثلج يبحث عن كيفية حياته المهنية كيفما كان. "لم تكن البداية سهلة أبداً، لقد أمضيت وقتاً طويلاً وأنا أجهد للانخراط في سوق العمل والانطلاق ولكن من دون جدوى".

في نهاية المطاف قرّر الشاب، وكان حينها عند تخوم عقده الرابع، أن يجد عملاً في أي مجال متاح. وجد ضالته لدى أدونيس، سلسلة المتاجر اللبنانية الشهيرة التي تمثّل بدورها تاريخاً لبنانياً عريقاً في مونتريال ومدن كندية أخرى. "لقد احتضنتني تلك المؤسسة وأتاحت لي الفرصة لاكتساب الخبرة وتطوير معرفتي".

في قسم اللحوم الخاص لدى أدونيس، وجد محمد الشاب فرصة لتطوير مهاراته. "رأيت في هذا المجال أفقاً أبرع فيه كما برعت عائلتي، وقد كان زملائي والمديرون في أدونيس داعمين لي، وأتاحوا لي فرصة إدارة هذا الشق من الأعمال".

كانت الفرصة قيمة جداً. مكّنت المبادر الشاب من الانتقال بخبرته إلى محلات بيبلوس الشهيرة بدورها لدى افتتاحها. "قضيت عامين لدى بيبلوس، ومن بعدها مباشرة قرّرت تأسيس عملي الخاص".

النواة كانت عبارة عن ملحمة صغيرة، يشرح الأخ الأصغر لأبو الياس، علي، بحماسة. "ولم يطل الأمر قبل أن يُرسل لنا وحتى لوالدي الدعوات للانضمام إليه ومساعدته في تطوير العمل وازدهاره".

هكذا، تطوّر العمل ليشمل المشاوي والفرن ويُصبح مطعم اللحمة اللبناني المتكامل الذي يقدّم حالياً أيضاً الطبق اليومي من الطبخات اللبنانية التقليدية.

عائلة أبو الياس منغمسة كلياً في المجتمع الكندي. الابن البكر، إلياس، الذي وُلد في منتصف الحرب اللبنانية، درس الهندسة الميكانيكية، وخلال سنته الدراسية الثانية، بدأ برنامج تدريب مع الشركة الكندية الشهيرة في مجال الطيران والتصنيع عموماً، بومباردييه (Bombardier). "اليوم يتمتع إلياس برتبة عالية في هيكلية الشركة وقد أثبت نفسه على أكثر من صعيد فيها". في المقابل "ابني الثاني، نايف، شغوف بالسياسة، يعمل حالياً مع الحزب الليبرالي في مدينة لافال - المحاذية لمونتريال والشهيرة بجاليتها اللبنانية من الطبقتين الوسطى والعليا والمنخرطة في الحياة السياسية - ويأتي دوماً إلى المطعم لتناول الطعام مع الناشطين السياسيين الكنديين في صفوف حزبه".

ليس هيناً أن تنجح كمبادر في كندا، وتحديداً في مقاطعة كيبك، وهي المقاطعة الفرنسية الوحيدة، وتفرض أعلى معدلات الضرائب؛ هنا الدولة شريكتك في كل شيء. "ندفع سنوياً ضرائب بمعدلات هائلة. ولكن وتيرة الأعمال تساهم في تخفيف أثر الضرائب المرتفعة".

أيام الدراسة الجميلة مع جنبلاط

رغم وتيرة العمل السريعة والضغوط المستمرة، يجد أبو الياس الوقت لزيارة لبنان مرتين على الأقل في السنة. "أمكث عند الوالد بعض الوقت في الجنوب وبعض الوقت في بيروت، ولكن ينفطر قلبك لدى زيارة بلادك أكثر من مراقبتها عن بعد". يشرح: "الغصة التي يشعر بها جيلنا تجاه لبنان هي الغصة الحقيقية لأن جيلنا هو من عاش الأيام الجميلة، حين كنا نتردد على منطقة الجناح وكانت الشواطئ مليئة بالرواد، والنظام محفوظ إلى حد ما". يتذكّر اللبناني المهاجر أيام الجامعة والأصدقاء. "أصبح معظمهم قضاة ومحامين. أذكر وليد جنبلاط الذي كان يأتي على دراجته النارية، كنا في الصف نفسه، تلك الذكريات الجميلة التي تجعلنا شبه متيقنين حالياً من أن البلد العلماني الذي يجب أن يكون لن يرى النور للأسف". الاسف والتشاؤم نابع من واقع أليم: "تجد الأجيال الصاعدة حالياً، هنا أو في لبنان، متشبعة بالطائفية، واليوم بالمذهبية. كيف يُمكن لبلادنا أن تعود إلى الحياة في ظل عقلية كهذه"؟ يعتمد المقارنة في هذا السياق: انظر إلى الحياة هنا، يُمكن لأي كان أن يتبنى المعتقدات التي يريدها وأن يرتاد الكنيسة أو المسجد أو أي دار عبادة، شرط أن يحترم القانون وألا يُزعج أو يؤذي الآخرين. إن حكم القانون هو الذي يبني البلدان. وطالما أن هذا الحكم غائب في لبنان فإنّ البلاد لن تقف على رجليها.

اقرأ أيضاً: مطعم السوسي
المساهمون