كاستيلانو،(Getty)
26 اغسطس 2020
+ الخط -

 

لا تمضي بضع سنواتٍ من دون إصدار عملٍ درامي جديد حول الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة. وبينما تحافظ الأعمال الكلاسيكية من هذا النوع على مكانتها حتى اليوم، فإن الأعمال الأكثر حداثةً تلقى إقبالاً شبيهاً، كما يدلنا على ذلك آخر هذه الأفلام The Irishman، والترقب المستمر لـ The Many Saints of Newark من إصدار HBO والذي سيسبق أحداث مسلسل The Sopranos.

وبينما تحفر هذه الأعمال مكانها في الثقافة الشعبية، أميركياً وعالمياً، فإنها لم تتوقف عند الدراما وحسب، بل امتدت أيضاً إلى عوالم الأفلام والسلاسل الوثائقية، معتمدةً على الرغبة في معرفة الحقائق التي تكفلت الأعمال الدرامية بأسطرتها. ولأجل سوقٍ منفتح الشهية كهذا، أصدرت نتفليكس سلسلة Fear City: New York vs. The Mafia نهاية الشهر الماضي، التي تسرد القصة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي من جانب، وجهوده للإيقاع بالعائلات الخمس الرئيسية التي كانت تحكم المدينة فعلياً، بزعامة بول كاستيلانو الذي قضى قتيلاً إثر صراع داخل هذه "العائلات".

حنين إلى نيويورك

تلعب السلسلة، رغم كل التحذيرات التي تقدمها، على وتر النوستالجيا. ولفهم هذا، علينا تفحّص الشهود الذين سيروون القصة، وينقسمون بمعظمهم إلى عملاء سابقين في مكتب التحقيقات الفيدرالية، ومشرعين قضائيين، واثنين من عناصر المافيا السابقين، اللذين دخلا حيز الشخصيات العامة بعد تحولهما إلى مخبرين.

تصبح القصة بالتالي استعراضاً لحكايا أشخاصٍ معرّفين وفقاً للحظة معينة مضت من الزمن، كما نلاحظ ذلك بصرياً حين يتم إعادة عملاء المكتب للعمل على أجهزة التنصت القديمة لتي لا يمكن إلا اعتبارها حجر الأساس في إنهاء عمليات العائلات الخمس، رغم تخلّفها اليوم. لينطبق الأمر ذاته على شهادات العملاء ذاتهم والمشرعين الذي دفعوا بقانون "ريكو" لمكافحة الجريمة المنظمة، وحتى رجلي المافيا السابقين، اللذين ولّت أيام استهلاكهما المفرط للشمبانيا وأيام الرخاء والعيش الرغيد.

يسمح هذا الاختيار للسلسلة بتفحص العملية من جهة محاربي الجريمة بكامل تفاصيلها وبالجانب الروتيني والمتعب منها حتى، وهو الجانب الذي تتخطاه المعالجات الدرامية بشكلٍ مفهوم، أو تسعى إلى تقليص مساحته.

تنجح إعادة تمثيل المشاهد، أو إعادة وضع العملاء ذاتهم بأماكن عملهم بعدم تحويل رتابة عملهم إلى رتابة فرجة بشكل دائم، كما أن المراوحة بين حالتي "العميل ضمن مهمته" و"العميل اليوم" تحاول ألا تنقل هؤلاء الرجال (ومعهم امرأة واحدة) كشخصياتٍ ذات بعدٍ واحد. أما شهادات رجلي المافيا، فلا توفق بالطريقة ذاتها لأسبابٍ سنشرحها لاحقاً.

ومع ذلك، فإن الاختيار للشهود بهذه الطريقة، على الجهة الأخرى، يسلب المدينة دور البطولة التي تستحقه، والتي يتوقع المشاهد حضوره بعد كل ذكرٍ لها. إذ توحي لنا السلسلة بأن نيويورك لم تكن يومئذ مجرد مدينة مهددة بجرائم القتل والترويع، بل إن شكلها اليوم بناطحات سحابها وعمرانها مرتبط بالمافيا أيضاً، عبر اختراقها لنقابات العمال حينها، وبالتالي القدرة على التوغل في معظم أعمال البناء والخدمات والاختفاء وراء وجاهات أعمالٍ قانونية.

لا تبالغ السلسلة حين تقدم هذا الادعاء، إذ يصف جايمس جاكوبس اختراق الجريمة المنظمة لنقابات العمال بأحد "أساسات الاستثنائية الأميركية" في كتابه Mobsters, Unions, and Feds الذي يبحث مطولاً في هذه الظاهرة وأسبابها، التي يكون جيمي هوفا ولغز اختفائه أحد أوضح الأمثلة عن حجمها، كما نرى ذلك في فيلمي Hoffa وThe Irish Man. ويصبح من المستغرب، إذن، ألا تمر السلسلة كما يجب على نقطة كهذه، وألا تجرّب لقاء نقابيٍ واحد، أو أي معني بهذه الظاهرة، والاكتفاء بثنائية رجل القانون/الخارج عن القانون بهذا المستوى. تفشل السلسلة في الاستفادة مما لديها أيضاً حين لا تجرب تمرير المقاطع القصيرة من نشرات الأخبار على شهود عيانٍ حيال نفس الأحداث وتستكشف دقة الصورة التي كان الإعلام آنذاك يقدمها عن هذه الحرب ذاتها أو تحاول تقديم رؤية أخرى لها.

عن الأسئلة الكبيرة

تمر السلسلة، بشكلٍ غريب، على كثير من النقاط التي يتوقع المشاهد أن تتحول إلى محاور رئيسية، ليفاجأ بعدها حين يرى السلسلة وقد تخطتها وعادت إلى لعبة الشرطة واللصوص. فحين تمر السلسلة على مباني ترامب التي شيدت -مثل كثير غيرها من أبنية نيويورك الكبرى- عبر تدخلٍ ما من المافيا، فلا شك أنه سيتوقع تفحص السلسلة لهذه الصلة بين رئيس الولايات المتحدة الأميركية والمافيا، والتي تستحق نظرةً أعمق. لكن يبدو أن السلسلة تجاهلتها لتجنّب "تسييسها". وإذا ما عدنا إلى أحد شاهدَي المافيا، مايكل فرانزيسي، فسنجد أنه بات متحدثاً علنياً ومؤلفاً يتناول فترة عمله مع المافيا، علاوةً على مشاركته بمجموعة من الفيديوهات القصيرة مع عدة مواقع إعلامية. ولا داعي للبحث المطول لكي نصل إلى النتيجة التي نعرفها مسبقاً، ويذكر فرانزيسي عدة مرات أن نشاطات المافيا لم تكن لتتم من دون تواطؤ مع مسؤولين حكوميين على عدة مستويات. الغريب أن فرانزيسي، ضمن المساحة المعطاة له في السلسلة، لا يغوص في هذا الجانب، وتصبح شهاداته في تلك الفيديوهات أكثر أهمية أحياناً، ولا تحاول السلسلة بدورها أن تكتشف هذا الجانب، وكأن القانون ومن يخرقونه جهتان منفصلتان كالماء والزيت ولا تقاطع بينهما، مع أن أي تحقيق في نشاطات المافيا لا يجب إلا أن يمر عبر هذا التداخل الذي نعرف أنه سيمر بالضرورة بالجهة المطبقة للقانون، سواء كانت الشرطة أو مكتب المباحث.

 

عموماً، تقدم سلسلة Fear City: New York vs. The Mafia لمحةً عن مرحلةٍ لم تكن فيها مدينة نيويورك المكان الأمثل لتخيل تشكيل صداقاتٍ كما ستقدم لنا بعد عقدٍ مع "فريندز" وكأنها مكان آخر كلياً. كما أنها تضيف بعض المعلومات للمهتمين بهذا الشأن ولا تخاطر بدخول دائرة خطر الملل عبر قصر مدتها النسبي والمراوحة بين الأرشيف الحقيقي وإعادة التمثيل والصور من الحاضر، إلا أنها عبر الرهان الآمن هذا تفشل في ربط ماضي هذه المدينة بحاضرها، والأهم في تقديم ما يوحي به العنوان وهو حرب نيويورك بأكملها ضد كيان العائلات الخمس، مكتفيةً بشكلٍ تبسيطي للعبة الأخيار والأشرار.

المساهمون