مدن منسيّة: دربنت في المصنفات الجغرافية

29 ديسمبر 2014
مدينة باب الأبواب (العربي الجديد)مدينة دربنت (العربي الجديد)
+ الخط -
تعد مدينة "دربنت" التي ترد في المصنفات الجغرافية العربية باسم "باب الأبواب" أبرز المدن والحواضر الإسلامية في جمهورية داغستان، وهي إحدى الجمهوريات ذات الحكم الذاتي ضمن الاتحاد الروسي. كما تعد "دربنت" إحدى أهم المعابر الرئيسية التي انطلق منها المسلمون لنشر رسالة الإسلام السمحاء في دول آسيا الوسطى، ومنها إلى بلاد روسيا وشرق آسيا.

يمكن القول إن احتكاك المسلمين بمدينة دربنت قد مر بثلاث مراحل. إذ يرجع دخول الإسلام إلى دربنت- التي أطلق عليها المسلمون فيما بعد مدينة "باب الأبواب"، نظرًا لاتخاذها منطلقًا لنشر الإسلام في ربوع منطقة القوقاز وآسيا الوسطى وشرق آسيا- إلى عهد ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب، وبالتحديد في عام 20هـ حينما سيّر الخليفة العادل حملة بقيادة "عمرو بن سُراقة"، لفتح المدينة. وتشير كتب التاريخ إلى أنّه لم يحدث قتال، إذ اتفق الطرفان عمرو بن سراقة وشهربراز- حاكم مدينة دربنت في ذلك الوقت التي كانت تتبع الإمبراطورية الساسانية- على أن ينضم شهربراز إلى القتال في صفوف المسلمين، مقابل إسقاط الجزية عنه، وهو ما كان بمثابة خطوة إيجابية للمسلمين، نتج عنها أن جعل المسلمين المدينة قاعدة ومركزًا، انطلاقاً للحملات نحو كثير من الفتوحات في المنطقة.

كما انطلقت الجيوش الإسلامية من مدينة "باب الأبواب" لنشر الإسلام في بلاد الخَزَر. إتيل كانت عاصمة الخزر الواقعة في دلتا نهر الفولغا (في روسيا اليوم)، كما يرد إتيل كاسم لنهر الفولغا في المصنفات الجغرافية العربية، وكانت مركزاً تجارياً هاماً. غزا الخزر بلغار الفولغا، وكانوا مسلمين وهم الذين أرسل إليهم الخليفة العباسي المقتدر بالله الرحالة أحمد بن فضلان في رحلته الشهيرة؛ استجابة لطلب من ملكهم المسلم ليبني لهم مسجداً ويفقههم في الدين، كما تحاربوا مع العرب والفرس والأرمن. في القرن الثامن، كانت غالبية الخزر تعتنق اليهودية، وباقي بلاد الران (أغلب أراضي هذا الإقليم تقع اليوم في جمهورية أذربيجان) وأرمينيا، حيث قاد "بكير بن عبد الله" حملة إلى موقان، وقاد "حبيب بن مسلمة" حملة إلى تفليس (عاصمة جمهورية جورجيا اليوم Tbilisi)، وقاد "حذيفة بن أسيد" حملة إلى جبال اللان، وقاد "سلمان بن ربيعة" حملة إلى حدود أرمينيا. وبذلك تحولت مدينة "باب الأبواب" إلى حصن للدولة الإسلامية في الشمال الشرقي من إقليم "الرحاب" لمواجهة أعداء الدولة الإسلامية من الخزر والروس. 

يمكننا القول إنّ أمر الاهتمام بمدينة "دربنت" الواقعة اليوم في جمهورية داغستان، وهي إحدى الجمهوريات ذات الحكم الذاتي ضمن الاتحاد الروسي، لم يتوقف عند حدود خلافة الفاروق، بل امتد حتى خلافة ثالث الخلفاء الراشدين "عثمان بن عفان"، وصولاً إلى الدولة الأموية، وتحديدًا في خلافة "هشام بن مروان بن عبد الملك"، الذي شهدت في عصره منطقة دربنت تصعيدًا خطيرًا من قبل الروس والخزر ضد الإسلام، في محاولة منهم لطرده من المنطقة. فما كان من الخليفة الأموي هشام بن مروان إلا أن سيّر جيشًا عظيمًا قاده "سعيد الحرشي"، الذي هزم الخزر والران (الخزر هم الشعوب القاطنة حول بحر قزوين اليوم، وإقليم الران تقع معظم أراضيه اليوم في جمهورية أذربيجان)، وتعقبهم بعيدًا خارج حدود إقليم الرحاب.

وبعد تلك المعركة، اتّبع الأمويون سياسة تركز على إبعاد العناصر المشبوهة من إقليم الرحاب ومدينة "باب الأبواب"، وتوطين العرب والمسلمين في تلك المنطقة للقضاء على التوترات، وتهيئة الأوضاع في المدينة للتهدئة، انطلاقًا من أنّها قاعدة ومركز قوي للمسلمين في تلك المنطقة الحيوية. لذلك نجد أن "مسلمة بن عبد الله بن مروان" عمد خلال فتوحاته الحاسمة في القرن الثامن الميلادي، إلى توطين نحو 24 ألف عربي ومسلم من بلاد الشام في مدينة "دربنت"، مما أدى إلى تغيير الجغرافيا البشرية في تلك المنطقة، وأصبح الجنس العربي العرق الأساسي والرئيسي الذي يتكون منه سكان ذلك الإقليم، الأمر الذي ترتب عليه فيما بعد ازدهار الدعوة الإسلامية في منطقة داغستان.

ورغم أنّ "دربنت" شهدت تراجعًا على مستوى المكانة العسكرية إبان حقبة حكم الدولة الأموية، إلا أنّها شهدت تطورًا كبيرًا على المستوى الاجتماعي والثقافي، وذلك نتيجة الالتحام الثقافي والحضاري بين الجنس العربي والأعراق المختلفة التي استوطنت الإقليم، الأمر الذي جعل من "باب الأبواب" نموذجًا للتمازج الثقافي بين العرب والأعراق المنتشرة في منطقة القوقاز تحت مظلة الإسلام.

لم تختلف سياسة الدولة العباسية كثيرًا في تعاملها مع داغستان ومدينة "باب الأبواب" عن سياسات سابقيها، بل إننا نجد أن الدولة العباسية اتخذت سياسات مشابهة للدولة الأموية. فنجد أنّ الخليفة العباسي "أبا جعفر المنصور" استمر في سياسة توطين المسلمين في تلك المدينة، الأمر الذي ترتب عليه تضاعف أعداد المسلمين في الإقليم، كما هاجر إلى المدينة أعداد كبيرة من المسلمين الأتراك، الأمر الذي أدى في النهاية إلى سيطرة الأتراك السلاجقة تمامًا على منطقة الرحاب وما حولها.

أبرز ما تشتهر به مدينة "دربنت" اليوم وجود قبور لـ40 من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، والذين قضوا خلال تواجدهم في المدينة، إما في معارك الفتوحات الإسلامية، أو أثناء جهودهم لنشر تعاليم الإسلام. ومن أبرز قبور هؤلاء الصحابة قبر الصحابي الجليل "حبيب بن مسلمة الفهري"، الذي كان أحد رواة الحديث عن النبي، وإضافة إلى دوره في رواية الأحاديث النبوية الشريفة، كان قائدًا عسكريًا فذًا، ويشهد على ذلك توليه قيادة الجيوش الإسلامية التي توجهت إلى آسيا الوسطى والقوقاز، وأمّره الخليفة عثمان بن عفان على ولاية قنسرين وأرمينيا، ودخل في معارك كثيرة مع الروم، حتى لقب بـ"حبيب الروم"، واستشهد في إحدى المعارك مع الروم، ودفن في مدينة "باب الأبواب".
المساهمون