مخطط لتدمير مصر بالإيدز يقوده سائح أميركي (1/2)

14 يوليو 2019
+ الخط -
"الإيدز.. إسرائيل.. أميركا.. أطفال مصريون.. سائحة بريطانية هاربة.. علاقات جنسية شاذة.. سائح أميركي مطلوب تهريبه". كانت هذه مقادير الطبخة الصحفية الحراقة التي قدمتها صحيفة (الأخبار) المصرية لقرائها في صفحتها الرئيسية بعددها الصادر بتاريخ 7 مارس 1990، مقررة أن تفرد لما جرى مساحة أوسع في تغطيتها، مقارنة بغيرها من الصحف اليومية التي كانت تفوقهن توزيعاً في ذلك الوقت. 

في ظروف طبيعية، لا تمتلئ فيها المخيلة الشعبية بتصورات عن وجود خطة إسرائيلية/ماسونية منظمة لنشر الإيدز بين شباب مصر، عبر شبكة من السائحات الجميلات الكاسيات العاريات المائلات المميلات كأسنان البُخت، كان يمكن لصحيفة (الأخبار) أن تحكي لقرائها أولاً تفاصيل الخبر الذي حصل عليه مندوبها في الداخلية،عن ضبط سائح أميركي اسمه ويليام تشارلز أثناء ممارسته الجنس مع فتيان مصريين وصل عددهم إلى ستة تتراوح أعمارهم بين الرابعة عشرة والحادية عشرة، ثم تبدأ بعدها في تقصي ما حدث وتحليل أسبابه وتبين ما إذا كان فعلاً فردياً أم أنه مرتبط بوقائع أخرى تدخله في بند الجريمة المنظمة. 

لكن الصحيفة رأت أن ذلك لن يكون كافياً لجذب انتباه قرائها الغيورين على شرف الوطن وعرضه، لذلك بدأت تحقيقها الرئيسي بطرح هذه الأسئلة: "هل هناك مخطط تدميري يقوده هذا الأميركي ضد شبابنا؟ هل هناك ربط بينه وبين زيارته لإسرائيل قبل مجيئه إلى مصر؟ هل حقا أثبتت المعامل الطبية أنه خال من الإيدز؟ وإذا كان غير مريض فمن أطلق عليه إشاعة الإيدز؟ هل هي وسيلة لتهريبه وإخراجه من مصر بلا عقاب رادع على جريمته التي أفسد فيها 6 أطفال مصريين، ومن يعلم ربما كان هناك العشرات غيرهم، ثم كيف يقضي 3 سنوات كاملة في مصر بلا عمل وبلا مصدر ثابت لدخله الذي ينفقه على الشقق المفروشة وعلاقاته المشبوهة". 

ومع أن ما نشرته (الأخبار) في أسئلتها التي كتبها الصحفي محمد عرفة، لا يقطع بإصابة ذلك السائح الأميركي بالإيدز، فهي تتساءل عن كون ذلك حقيقة أم إشاعة، فضلاً عن أن إقامته لمدة ثلاث سنوات في مصر لا تجعل وصفه بالسائح دقيقاً، إلا أن الصحيفة "القومية" الكبرى قررت أن تمضي أبعد في إثارة مخاوف قرائها من السياح المشاركين في المخططات الجنسية التدميرية، مستعينة بالعميد محمد فودة رئيس المباحث الجنائية بالجيزة الذي نشرت الصحيفة على لسانه ما يأتي: "جميع جرائم قتل الأجانب تقف خلفها هذه العلاقات الشاذة ونكتشف أن الأجنبي يتعامل مع فئات منحطة ووضيعة من المجتمع وأنه يدفع أمواله ثمنا لهذه العلاقة وبعدها حياته، والامثلة عديدة: سائح ألماني بالهرم كان يتصيد عمال فرن بجوار عمارته، وخبير بريطاني كان يلتقط بعض العساكر بسيارته ويذهب بهم إلى شقته، وسائح ألماني خنق بشقته في عمارة معروف بعد ليلة شاذة، وآخر إنجليزي أبلغ عنه أولياء أمور التلاميذ بمدينة المهندسين لأنه سبب تزويغ أولادهم، وللأسف أن الأمر ينتهي دائما بجريمة حيث لا يقنع الشاب بما يدفعه له الأجنبي نظير فعلته الآثمة ويفكر كما فكر صاحب الدجاجة التي تبيض له بيضة ذهب كل صباح، فيقتله ليحصل على كل أمواله مرة واحدة".

والمضحك أن محرر الصحيفة حين سأل العميد فودة: "كيف عرفتم أن السائح مريض بالإيدز؟"، أجابه العميد قائلاً: "نحن لم نقل أنه مريض بالإيدز"، كاشفاً إن ما نسبته الصحف للمباحث في هذه النقطة بالتحديد "ممكن يكون خيال صحفي"، مؤكداً أن ويليام تشارلز هاركورت البالغ من العمر 45 سنة والمقيم في شقة مفروشة بشارع محمد يوسف بالدقي، وصل إلى مصر في 12 أغسطس 1984 عن طريق مطار القاهرة، ثم غادرها في 22 أغسطس 1984 إلى إسرائيل عن طريق منفذ رفح ، ليعود منذ نفس المنفذ في 11 مارس 1987 ويقيم في القاهرة حتى تاريخ ضبطه في مارس 1990 داخل شقته بصحبة ستة من الأحداث، لتوجه له تهمة إيواء أحداث جانحين وهاربين من أهاليهم ومن المؤسسات الإيداعية لممارسة الفجور والشذوذ، فيتم إيداعه بمستشفى حميات العباسية للتأكد من إصابته بالإيدز، ويتم إيداع الأحداث الستة تحت حراسة مشددة في مديرية أمن الجيزة، لكن العميد فودة حرص على أن يؤكد أن صلة المباحث الجنائية بالمتهم تنحصر في جريمة الفجور التي مارسها مع الأحداث الستة، ولا علاقة لها بإقامته بإسرائيل، لأن هناك جهات مختصة للتأكد من تاريخه السياسي. 

كان مفهوماً أن تنشر (الأخبار) اسم المتهم الأميركي كما ورد في محاضر الشرطة، لكن ما لم يكن مفهوماً على الإطلاق هو أن تقوم بنشر أسماء الأحداث الستة كاملة، بل وأن تنشر أعمارهم وأماكن إقامة أسرهم أيضاً، بشكل يخالف ميثاق الشرف الصحفي والأعراف الصحفية المتبعة في حالة التعامل مع الأحداث والقصّر، ربما لأن الصحيفة أرادت أن تحذر كل من يعرفهم من احتمال إصابتهم بالإيدز، مع أنها لم تؤكد أصلاً إصابة المتهم الأميركي به، كان من الملفت أيضاً أن تنشر الصحيفة مهنهم وما يحصلون عليه من دخل شهري بالإضافة إلى معلومات عن حياتهم الأسرية، فأحدهم كما نشرت جرسون بمدرسة خاصة يقيم مع أسرته المكونة من 3 أشقاء ودخله الشهري 80 جنيها وعمره 11 سنة، والثاني بائع فول يقيم مع أسرته المكونة من 10 أشقاء وعمره 13 سنة أما دخله اليومي فهو سبعة جنيهات، والثالث عمره 11 سنة ويعمل صبي نجار وله ثلاثة أشقاء، أما الرابع فهو ميكانيكي سيارات والده متعدد الزيجات ووالدته متزوجة بآخر، وعمره 14 سنة وأجره الشهري 90 جنيها، والخامس كهربائي سيارات يقيم مع خمسة أشقاء في بيت زوج أمه ودخله الشهري 80 جنيها، والسادس يعمل في دوكو السيارات ويقيم مع زوجة أبيه وشقيقين وعمره 14 سنة ودخله الأسبوعي خمسين جنيهاً، وكان واضحاً أن الصحيفة حرصت على نشر هذه المعلومات للإشارة إلى أن استجابة هؤلاء الفتيان لغواية السائح الأميركي لم تكن إلا لأنهم قدموا من أسر مفككة غير مستقرة، ولا علاقة لها بالقيم والتقاليد المصرية الأصيلة.

بعدها قالت الصحيفة إن المتهم الأميركي والأحداث الستة سقطوا بعد عدة أكمنة شارك فيها مقدمان وثلاثة رواد وعدة أمناء وعساكر، وأن المباحث كانت تظن في البداية أن الأحداث الستة لصوص يحاولون سرقة المواطن الأميركي، ومع أن ما نشر لم يؤكد أن الأحداث تم ضبطهم في حالة تلبس، إلا أن الصحيفة نقلت عن الضباط أن الأحداث اعترفوا بالتردد على صديقهم الأميركي الذي تعرف في البداية على صديقه الجرسون والذي أحضر له أصدقاءه الباقين، وأن المتهم كان " يطلب منا نزع ملابس العمل والاستحمام في بانيو شقته بالماء الساخن ويحرص على أن يشرف علينا داخل الحمام، ويطلب منا الجلوس عراة تماما معه في الشقة حيث نتفرج على التلفزيون ويقدم لنا العشاء وينفرد بنا الواحد بعد الآخر في حجرة لممارسة الجنس ثم يعطينا جنيها لكل منا وهو يودعنا بعد أن يشبع منا".

لكن من أطلق حكاية الإيدز التي سرت في المجتمع سريان النار في الهشيم لدرجة أن الصحيفة وضعتها في صدر تغطيتها مع أنها نشرت نفياً لها داخل التغطية نفسها؟ حين سألت الصحيفة المتهمين قالوا لها إنهم لا يعرفون شيئاً عن الموضوع، وأنهم سمعوا بالحكاية من الصحف، في حين قال وكيل النيابة إن السائح حين طلب من صديقه الأول أن يأتي له بصبية آخرين ليمارس معهم الجنس قال له "أنت صديقي وأنا لا أريد أن أعديك بمرض الإيدز"، وأن مدير مديرية صحة غرب الجيزة أبلغ النيابة تليفونيا بأن السائح الأميركي لديه الإيدز وأن الأحداث أيضا مصابون به، وهو كلام يختلف تماماً عما قاله رئيس المباحث الجنائية للصحيفة، وهو ما كشف عن وجود رغبة لدى جهات ما في تسوية الموضوع لعدم إثارة أزمة دبلوماسية مع الولايات المتحدة، وهو ما جعل محرر الصحيفة يتساءل في بداية موضوعه قائلاً: "ويليام تشارلز هل نتركه بلا عقاب؟"، مشيراً في ثنايا تغطيته للواقعة إلى أن مديرية أمن الجيزة قامت بتسليم الأميركي إلى مباحث الجوازات لترحيله خارج البلاد.

وبرغم أن رئيس المباحث الجنائية نفى بشكل قاطع أن يكون هناك وجود للإيدز في القضية، إلا أن الصحيفة أشارت إلى حدوث حالة ذعر بين ضباط وجنود الشرطة الذين قاموا بالقبض على المتهم الأميركي والأحداث الستة، لأن المتهم بعد احتجازه شرب شايا وماء، والأطفال أكلوا وشربوا في حجز مديرية الأمن الذي أقاموا فيه ليلتين، ولذلك حرصت الداخلية على أن تطلب من وزارة صحة إرسال فنيين قاموا برش الأماكن التي تردد عليها المتهمون، وبعد أن تم إحالة الأميركي إلى مستشفى العجوزة لفحص ما إذا كان يعاني من أمراض تناسلية أو معدية، أحاله المستشفى إلى مستشفى القصر العيني، الذي أحاله بدوره إلى المعامل المركزية بوزارة الصحة، وذلك لعدم توافر أجهزة لفحص عينات الدم لدى المستشفيين طبقاً لما نشرته (الأخبار) التي قالت إن لديها المستندات التي تثبت هذا الكلام، لكنها في الوقت نفسه لم تقل أن من بين هذه المستندات شهادة طبية تؤكد إصابة المتهم والأحداث بالإيدز. 

نكمل غداً بإذن الله..

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.