مختبَر الكتابة وحِيَلها في "تنقيح المخطوطة"

13 مارس 2014
محمد الحارثي
+ الخط -

في روايته "تنقيح المخطوطة"، يخوض العُمانيّ محمّد الحارثيّ (1962) في عالم الكتابة والمراحل التي تمرّ بها الرواية منذ لحظة انبثاق الفكرة، مروراً بتخمّر الأحداث ورسم الشخصيّات واحتلالها الحيّز الخاصّ بها، وبمراحل الكتابة والمراجعة والتدقيق والتنقيح، وصولاً إلى القارئ، ليبرز حياة الرواية النابضة في حياة قلقة، وإمكانية أن تكون حجراً يحرّك ركود مجتمع برمّته.

تتصارع في "تنقيح المخطوطة" التي أصدرتها دار "الجمل" في بيروت أخيراً، عدّة عوالم، تدخل في بحر المنافسة والتجاور معاً، حيث صراع الواقع والمتخيّل. فالحلم يحتلّ الحيّز الأكبر في متاهة الطبقات، وكأنّ الكاتب بصدد تقديم دراسة مفصّلة عن طبقات الحلم أو دوائره المتشعّبة، فيغوص في الحلم داخل الحلم، ما يذكّر بعوالم فرويد وتشخصيه بعض العلل انطلاقاً من الأحلام، كما يشير إلى الفحص السريريّ والاستشفاء عبر الحلم، والكتابة تالياً.

يستنطق الكاتب الحلم ليكون شخصيّة روائيّة لديه، يوليه عناية لافتة، ويمنحه صوتاً، ضمن لعبة فنّيّة تجريبيّة يستكمل شروطها بتكليف رواة متعدّدين، لكلّ فصل راوٍ، حتّى أنّ الروائيّ نفسه يغدو إحدى الشخصيّات في لعبة قلب الأدوار وتغيير قواعدها والتلاعب بها في مسار الكتابة والتنقيح. ويذكّرنا الحلم بدوائره وطبقاته والأحلام التي يستبطنها ويفكّكها ويطرحها، في سياق رحلة الكتابة، بفيلم "Inception" للمخرج كريستوفر نولان الذي يشكّل عالم الحلم مسرحه السينمائيّ الرحب اللامألوف. ولا يخلو الأمر من تحوّل الحلم إلى كوابيس مفزعة تقضّ مضجع الشخصيّات وتعجّل بوضع نهاية لها في بعض الأحيان.

بطل الرواية كاتب قصص عجوز يقبل على كتابة رواية بعد إلحاح صديقه الناقد عليه، وبتشجيع من ابنته الوحيدة. ولأنّه يعاني من أمراض خطيرة تعرّضه لنوبات يأس مزمنة، يرضخ لرغبة صديقه وابنته، فينطلق في الكتابة ويخترع عالماً بديلاً، مانحاً شخصيّاته حرّيّة الحركة والقول والفعل، ومفسحاً لها مجالاً للمبادرة والبوح، ومحتفظاً لنفسه بمهمّة التنقيح والمراجعة، وكأنّه بصدد تنقيح حياته في روايته، أو كأنّ التنقيح الكتابيّ يكون تعويضاً عن الجانب الآخر الذي فقده ولا يحاول استعادته لأنّه يدرك أنّ الوقت فاته.

"تفاحة"، "مسمار"، الحلم، الصيرفي، الناقد، ابنة الراوي، شخصيّات تتناوب على سرد الأحداث، وتقدّم سيَرها في بحر سيرة الكاتب العجوز، تروّض جموحه المتأخّر بحكاياتها الغريبة، وتتقدّم لتفصح عن وقائع وأحداث يجري التكتّم عليها، وكأنّها بدورها تعوّض عن العجز في الصراخ والتعبير والاحتجاج على التغييب الواقعي للتنويع والاختلاف، وذلك في عودة إلى مراحل الطفولة والقرية، ثمّ إلى المدينة والمدن الأخرى المكتشفة والتغيير الذي لا يستثني أحداً من اجتياحه.

حيل أدبيّة كثيرة يستعين بها الروائي ليقنع قارئه أنّ روايته تُكتب من قبل شخصيّات تملي رغباتها وحكاياتها، وأنّه يجمع شتاتها ويتساوى معها، وإن كان هناك شخص متوارٍ ينقّح الفصول ويعيد كتابتها وتحريرها. يجرّب الغوص في دواخل الكتّاب، يستحضر كثيراً من الروائيّين العالميّن الكبار، مثل دوستويفسكي وغارسيا ويوسا وفرجينيا وولف وفوكنر وهمنغواي، فينقل آراءهم في عملية الكتابة ويثري روايته بالتحاور معهم ومناقشة بعض طروحاتهم، وكأنّه أمام امتحان التاريخ والأدب.

يتأثّر بطل الرواية بشكل خاصّ بأولئك الذين أقدموا على إنهاء حياتهم برغبة منهم وتخطيط، وكأنّهم يعيدون تنقيح مخطوطة روايتهم الأخيرة ويوقّعون عليها برصاصة الرحمة التي تختلف من أحدهم إلى الآخر، ويتماهى مع بعضهم في توقيعه على الخاتمة باختيار نهاية حياته عبر خلطه أدوية تمنحه موتاً هادئاً دون ألم أو ضجيج، عساه يلتقي مع أصدقائه الأدباء السابقين في حانة الأبدية ليتبادل معهم أنخاب الحياة والموت والأدب.

يهيمن على الكاتب شبح بعض أولئك الكتاب، وبخاصّة دوستويفسكي، حتّى أنّ شخصيّة بطله المتخيّل يلقّب بصادوفسكي، في إحالة إلى ربطه بشخصيّة روائيّه الأثير والحديث عن حلمه الأثير أيضاً ضمن معمعة واقع متخبّط يتنكّر للمواهب ويلغي الدور المنشود للكاتب، ويبقيه في معزل عن التأثير، داخل زمن حصار الكلمة وتقييد الأديب وفرض نوع من الحجر عليه ليمنع تواصله مع الناس ويحجّم من تفاعله وتأثيره، وذلك في معرض إشارته إلى رعب الطغاة من الكلمة الحرّة المسؤولة.

بموازاة الحكايات الصغيرة التي ترد بين فصلٍ وآخر، يظلّ خيط السرد اللامرئيّ الجامع للفصول هو التركيز على عالم الكتابة وتفاصيل الاشتغال على الرواية، ويذكّر بدور المنقّح الهام في عملية المراجعة ونصح الروائي، ويشير إلى غيابه في عالم النشر العربيّ رغم دوره المحوريّ في إضفاء لمساتٍ فنّيّة مميّزة على الرواية وتقديم نصائح ثمينة للروائي تساهم في سدّ ثغر العمل إن وجدت.

تتحرّر الرواية من الجانب الكلاسيكيّ بالبدء بحكاية تتصاعد أحداثها تدريجياً للوصول إلى ذروة تتفكّك فيها الحبكة وتنكشف الخيوط. ورغم أنّ الفصل الأوّل يبدو مختلفاً من حيث السرد والأفكار العلمية الواردة فيه، إلّا أنّه يمهّد للفصول التالية التي تستقلّ بخصوصيّتها في حديقة الرواية، أو غرفها المتعدّدة المتناثرة التي يجمع بينها راوٍ عليم يكشف عن نفسه بين الفينة والأخرى ليلملم شظايا الشخصيّات ومساراتها المتباينة.

يلجأ الكاتب إلى أسلوب الـ"كولاج" في بعض الفصول، فيضع اقتباسات معيّنة، سواء كانت شذرات من الصحف أو مقاطع من الرقى والأحجبة، كما يضمّن كثيراً من الفصول آراء بعض الكتّاب، كاستشهاده في عدّة مواضع بوصايا يوسّا في كتابه "رسائل إلى روائيّ ناشئ" التي يقدّم فيها وجهة نظره ورؤاه في الكتابة، فضلاً عن تنظيرات الكاتب نفسه، رغم حالته المضطربة التي تنوس بين الخيبة والأسى والقهر، بين الألم والأمل، وتنتهي بالانفتاح على افتراضات وتأويلات متعدّدة تضفي تجديداً على الرواية وربّما تدعو القارئ إلى إعادة قراءتها وتنقيحها في ذهنه لتكتمل برؤاه وأحلامه وتفاعله معها.

دلالات
المساهمون