مختارات شعرية متوسطية من سيدي بوسعيد

13 يونيو 2014
معتوق أبو راوي / ليبيا
+ الخط -
ماريا جوا كانتينو (البرتغال)

 


غياب


هو ليسَ إلا اسماً يأخذُ مكانَ

اسمٍ آخرَ، هو عتبةُ العالم،

حيثُ في كلِّ لحظةٍ يستدعي وينشرُ الضوءَ

الملاكُ المجروحُ بسببِ عدمِ تَحقُّقِ الصبواتِ وهو الصوتُ الذي بلا صدى

والنظرُ الذي لا يقدّمُ شيئاً

والكلامُ الذي يسكتُ عما يرغبُ أن يكونَه

الفراغ يرتسمُ حول النحوِ أسلوباً ناكراً بلا جسدٍ.


اغتباط


أمشي حافيةَ القدمين، في

ليلٍ أبيضَ يحملني

إلى شاطئ قديمٍ

حيث الزمنُ لم يعدْ موجوداً

أمشي في إثرِ الآلهةِ

قربَ الحيواناتِ التي تَلدُ الأمواج

كما لو أن هذا النشيدَ الصافي لا يريدُ غيابَ أيِّ شيءٍ

لمَ لا يتركونني أن أكون هكذا

زهرةً بين الفاكهةِ، أثراً في الرمال

وجهاً تحت المطر

أو جسداً في الريح

ما الذي يَهُبُّ من الأبدية؟



أبدأ من جديدٍ رسمَ سفري


أبدأ ثانيةً رسمَ سفري

على آخرِ ورقةٍ أملكُ. الممزقةِ قليلاً

المليئةِ بالخربشاتِ والرغبةِ


أبدأ من جديدٍ دائماً الرسمَ، ملتمةً على نفسي

رغمَ يدي النظيفتين

أبدأُ من جديدٍ إعادةَ كتابةِ التخيلاتِ

أبحثُ عن الألوانِ كرسامٍ حريصٍ على المستقبلِ

أبدأ من جديدٍ رسمَ العالم

كما أريدُه بألوانٍ فاقعةٍ

أعتقد أن الألوانَ المثاليةَ غيرُ موجودةٍ

لكنَّ كلَّ الألوانِ ممكنةٌ

منذ اللحظةِ التي يقودني فيها الأملُ من يدي

أعيدُ كتابةَ كلّ شيءٍ بلونٍ آخر

لونٍ ليس حقيقياً لكنه أيضاً ليس لون الخيبة

أذهبُ باحثةً عن اللونِ بين أقدمِ الخاماتِ التي أحتفظُ بها

كمؤنَةٍ وحلمٍ أخيريْن

فجأةً تتحررُ الصورةُ على الورقِ

متمردةً كمهرٍ بري

ولا أعودُ أميّزُ صورَ الكلام

فأبكي وأضحكُ. فالحياةُ ليستْ ما أردنا كتابتَه

أفهمُها في خشوعي أشبهَ بناسخةِ كتبٍ



تاسوس غالاتيس
(اليونان)



البدوي


رقيقٌ ورشيقٌ وشاردُ الذهن

في جلابيته المهترئةِ ذاتِ التطريزاتِ الفقيرةِ

رأيتُ بدوياً

يصلي ويركعُ بخشوعٍ لامتناهٍ

خلفَ حديقةِ الأكاديمية

جالساً أحياناً ومستلقاً على الأرض أحياناً أخرى

ربما هو بستاني أو فلسطيني

مطرودٌ من أرضه

وربما ناجٍ من قاربٍ يصلحُ لإغراقِ كلابِ تجارِ العبيد

لم أنسَ خصوصاً عينيه

كانتا ملتهبتينِ وتلمعانِ كفانوسِ علاءِ الدين

ولأنه كان يرتّلُ بصوتٍ خفيضٍ آياتٍ من القرآن

دخلتُ أخيراً سرَّ الحكايةِ

لماذا انهارتْ أبراج منهاتن وتناثرتْ في الهواء

لماذا لا ينسى اليهودُ إطلاقاً المحرقَة؟


الإيراني


فرِحَ عندما قلتُ له

إني سافرتُ إلى بلدِه

واستمعَ إليَّ بتأثرٍ

إذ قلتُ: إن جمالَه تركَ آثاراً في داخلي

لم أسالْ عن أسبابِ منفاه

هل هو الفقرُ، التعاسةُ أم السياسةُ

ظننتُ أن فضولي سيزعجُه

كان يتكلمُ بفخرٍ عن "شوشانَ" و"بيرسوبوليس" و"باساركاد"

وعندما وصلَ إلى "أصفهانَ" الشهيرةَ

غنّاها لي تقريباً

لم يكن يتناول المخدراتِ ولم تكنْ له أيةُ علاقةٍ

بمافياتِ المكان

"لكن أينَ أذهب

هنا فقطْ أجدُ شخصاً أتحدثُ معه"

ثلاثةَ عشرَ سنةً في أثينا. كانت يونانيُته رائعةً

لكن أين نذهبُ عندما نُطردُ من بلدِنا

في "أومونيا" فقطْ يمكنُه أن يتصالحَ مع عزلتِه

كأهلنا قبلَ وقتٍ قليلٍ من نزولهِم من القرى

وهم ينتظرونَ بطاقةَ الصعودِ

أو فيزا إلى مناجمِ الفحمِ في "إسيبيري"


المغني الأعمى


السنواتُ جعلتُه ثقيلاً وبطيئاً

يصعدُ فجأةً الباص

وهو يجرجرُ آلةَ البوغدون المعوجةِ

على ظهرِ أوكورديونٍ عتيقٍ جداً

متعثراً، المغني الأعمى

اسمه "فيموس" أو "تيموس"

لا يغني خصالَ "أثريدَ"

ولا بسالةَ "باتروكل" و"ديومودْ"

بلْ مرثيةً منسيةً

تشبهُ قليلاً "آمانْ، آمانْ"

تأسُرُ السمعَ

وتحكي انقلاعَ الجذورِ

وألمَ الغربةِ

عنعناتُ العربة

في منعطفاتِ "كالوغريزا"

شتائمُ ومسباتُ السائقِ

وسخطُ المسافرين المكدسينَ واحداً فوق الآخر

وشخصٌ عجوزٌ

خائرُ القوى في المقعدِ الخلفي

يتابع نوتةَ الغناءِ الجنائزي

ضائعاً في شعرهِ الأبيضَ

وذقنِه الشعثاءَ

كما لو أنه "بريما" وهو يبكي بصوتٍ ضعيفٍ

خرابَ عائلتِه.


بوليمارك سيدُ الحربِ


هكذا تبنى المدنُ الطوباويةُ

طاغيةٌ تحتَ سلطةِ ملكٍ كبيرٍ

أو ملكٌ صغيرٌ في منطقةِ "سيتي"

يتحرّقُ لزرعِ القصبِ في سهوبِ آسيا

ويريدُ أن تتفتحَ أشجارُ الياسمينِ في الصحراءِ

ويذهبَ الجميعُ فقراءَ ونبلاءَ بحماسةٍ

ليخصِّبوا بدمهِم وعظامِهم

الحقولَ المقفرةَ في العالم


وريثَ عرشِ الكلامِ

هكذا يُنصِّبُ سقراطُ بوليماركَ في الجمهورية

ثرثاراً في قصرِ "سيفالَ" الجليلِ لا تطالُه أيُّ عقوبةٍ

يحلمُ برفقةِ ابن "أريستون"

بالمدينةِ السماويةِ


على هذا المنوال تُبنى المدنُ الطوباويةُ

وما من أَحَدٍ حَسَبَ لا الدمَ ولا العظامَ التي دفعتْ في سبيلِ بنائها.



كلاوديو بودزاني
(إيطاليا)



أجيء حاملاً لك قصيدة لنيرودا


ماسكٌ المدَ والجزرَ برسنٍ

وفي قلبِي عَدْوٌ

سأعجنُ ريحاً ورملاً

من هذا البحرِ الذي لا قبرَ له

لأنحتَ قدميك الصوتيتين

وأسمعُهما ترقصان في عينيّ

لألتحقَ بكِ، سأتسلقُ

من البحرِ حتى الهضبةِ

رأسي يرتسمُ نجمةً

لاستدعاءِ أصواتِك

شفتاي المتعبتانِ تنفرجان

دونما انتباهٍ عن ابتساماتٍ وفصولِ خريفٍ

وأنا هنا،

في هذا الأتوبيسِ الذي يهزُّ جسدي

كقطعة نردٍ

كسجادةٍ

متسكعاً على طرقاتٍ مغبرةٍ

جعلها المطرُ المفاجئُ خرساءَ

تصفّقُ الفراشاتُ أثناءَ مروري

مرفرفةً أجنحتَها

فوق مستنقعاتِ الوحلِ التي تبلعُ نرسيس

عَدْوي من مدٍ وجزرٍ

داخلَ قلبي ممسوكٌ برسنٍ.

احْمِلْني حيث يمكنُ نسيانُ

هذا القرنِ الذي يرانا منفيين،

هذه الأعاصيرِ

التي لا تحملُ أيةَ برودةٍ،

هذه الاحتفالاتِ وهذه الاحتضاناتِ

التي ليست سوى تيجانٍ تافهةٍ من زهورٍ.

البحر هناك

بعيدٌ كمشروعٍ مهجورٍ

الدواليبُ ترمي حجارةً وذكرياتٍ

على المنحدرِ الذي يفرشُه أمامي منزلُك

أنا نحاتُ أوراقِ الخرشوف

أهديك خيالاتِ غيومٍ

لكِ

كأسٌ مكسورٌ طرفُها

لا يمكنُني تقبيُلها دونما أن أُجْرحَ

لكِ

أذنٌ مقطوعةٌ ومرميةٌ في حقلٍ

للاستماعِ إلى أسرارِ النملِ

لكِ

أهدي معطفي البالي

مقاومتي

وهذه القصيدةَ الضائعةَ لبابلو نيرودا.


تنويمة مضادة


ماذا هناكَ في الطابقِ الأعلى

محاريثُ كراسٍ وترددُ صرخاتٍ

بينما ستائرُ تخفي عني الشمس

في هذا الصالونِ حيث العدمُ يغمرني


ضربتُ السقفَ بالمكنسةِ

ذهبت ألفَ مرةٍ لأرنَّ جرسَ هذا البابِ

فقط أصواتٌ معتمةٌ وغيرُ متجانسةٍ

ردّتْ على محاولاتي


تبدو صلواتٍ ممزوجةً مع قهقهاتٍ

وصفيرِ وأجراسِ حيواناتٍ، وتأوهاتٍ مختنقةً

أصواتٌ متكاثرةٌ كما لو أن هناك حشداً

وطنيناً مزعجاً لذبذباتِ راديوهاتٍ تتشابكُ مع بعضِها البعض


ماذا هناكَ فوق رأسي

علبةٌ سحريةٌ تحوي الجحيم

بابٌ لا يخرجُ منه أحدٌ أبداً

سقفٌ يفصلني عن عالمٍ مجهولٍ

الليالي طويلةٌ إذا ما ساورني الرعبُ

إذا ما قرضتنِي هذه الأصواتُ الملعونةُ من الداخلِ

إذا ما حملني حدسٌ غريبٌ على التفكيرِ

لو أغمضتُ عينيَّ فلن أفتحْهُما أبداً.



باتريك ديبوست
(فرنسا)



ما أعرفه

1

أعرفُ أن اللغةَ داخلَ العالمِ والعالمُ في الوقتِ نفسه داخل اللغة. أعرف أننا على

تخُمِ العالمِ واللغةِ.


2

لا أحبُّ الجملَ من نموذجِ "لا جديدَ تحت الشمسِ" أو "كلُّ شيءٍ قد قيل من قبل". أعرف أنه في كل لحظةٍ يمكنُ التأكيد: "كلُّ شيءٍ دائماً جديد تحت الشمس" أو "تقريباً، لا شيء قد قيل من قبل، بين كل ما كان قد قيل".


3

أعرف أنه لا ترابطَ منطقياً حقيقياً إلا في ظاهرٍ غيرِ مترابطٍ. كلُّ الأشياءِ تكتنفُها الفوضى. كل فكرةٍ كي تأخذَ حيزَها يجب أن تقبلَ جانبها الضبابيَّ والفوضويَّ.


4

بين ما هو بديهي: أعرفُ أن كلَّ نشاطٍ إنساني يؤدي بطريقةٍ أو بأخرى إلى مقاومةِ الموت.


5

أعرف أن الزمن مرتبطٌ بالفضاء. الزمن هو ظلُّ الفضاء. الفضاءُ هو ظلُّ الزمن. أعرف أننا نعيش في ظلِّ الظلِّ وذلك هو نَظيرُ الضوء.


6

أعرفُ أنني لا أعرفُ شيئاً عن الحبِ.


7

أعرف أنني لا أعيشُ في العالمِ ولكنْ في ظلِّ العالم. أعرفُ أنني أمشي في العالم كحشرةٍ تمشي طيلةَ حياتها في ظلِّ تلْعَةٍ.


8

أعرفُ أن كلَّ شيءٍ هو مبلغُ وكلُّ عناصرِ المبلغِ مرتبطةٌ بالمبلغِ نفسه.


9

أعرفُ أن كلَّ شيءٍ، حولي، ليس غيرَ جمعٍ غفيرٍ من الاحتمالاتِ. أعرفُ أن كلَّ كلامٍ يستندُ على بناءٍ كبيرٍ من الاحتمالات.


10

أعرف أن الرّعدَ يأتي بعد البرقِ وأحياناً في أحلامي الرعدُ يسبق البرقَ. أعرف أننا إذْ ننظرُ في كل الظواهرِ، في الوقتِ نفسه، إلى ما هو عكسها، نوسعُ ونؤسسُ نظرتَنا.


11

أعرفُ أن العثورَ يكتنِفُه شيءٌ من الخسارةِ. والامتلاكُ يكتنفه شيءٌ من الهدمِ.


12

أنا

أنا أعرفُ

أنا أعرفُ أنني

أنا أعرفُ أنني أحبُّ

أنا أعرفُ أنني أحبُّ كثيراً

أنا أعرف أنني أحبُّ كثيراً واحدة

أنا أعرف أنني أحبُّ كثيراً امرأةً

أنا أعرفُ أنني أحب كثيراً امرأةً ولكنْ

أنا أعرف أنني أحب كثيراً امرأةً ولكنْ أنا

أنا أعرف أنني أحبُّ كثيراً امرأةً ولكن أنا لا

أنا أعرف أنني أحبُّ كثيراً امرأةً ولكن لا أعرفُ

أنا أعرفُ أنني أحبُّ كثيراً امرأة ولكنْ لا أعرفُ

من هي؟

13

أعرف أن التحدثَ هو المشيُ على خيطٍ، بفراغٍ على اليسارِ وبفراغٍ على اليمين. أعرف أن لا شيء يمسكُ بطرفي الخيط. أعرف أن الكتابةَ هي التحدثُ في زمنٍ ساكنٍ.

14

أعرف أن كل كلمة يَكْتنُفُها ألف كلمة. أعرف أن كل كلمة تتموضع على كل كلمة موجودة في داخلها. أعرف أن الجملةَ هي نظيرُ ألفِ جملة وأن التفكيرَ له قرابةٌ مع السباحةِ.

15

أعرف أن كل شاعرٍ حقيقيٍ هو شاعرٌ خاسرٌ. وأن كل شاعرٍ خاسرٍ ليس بالضرورةِ شاعراً حقيقياً. أعرف أن شاعراً مدعياً هو أحياناً شاعر حقيقي. أعرف أن خصوصية الشاعر أمرٌ نسبيٌ وخطيرٌ.

16

القراءةُ ليس بالضرورةِ التحليل ولا "الفهمَ". في المسبحِ، لا نسأل السباحَ مما تتركّبُ المياه، لا عدد ولا أوضاعَ السباحين، أو لماذا ذلك يقومُ بذلك النوع من السباحةِ في ذلك اليوم وليس في غيره. لا نسأله كتابةً، وهو يسبحُ، عن هندسةِ المكان المعماريةِ والصوتيةِ أو شرحِ عصفورٍ سجينٍ في القبة، ولا تقليد عبورِ فقمةٍ أولمبيةٍ. لا نسأله أن يحفظَ غيباً مواعيدَ الافتتاحِ والإغلاقِ ولا الصفيرَ على مقعدٍ، بينما يسبح بطريقةِ متر الفراشةِ، وطيلةَ السباق. لا. لا نسأله، كي ننتهي، بعد كل غطسةٍ، بأن يظهرَ لنا معنى غائباً، نفيَ أعماق المسبح. لا. نتركُ السباحَ يسبحُ. نترك السباحَ يسبحُ. والمسابحُ مكتظةٌ بالسباحين.


17

أعرف أنني أعيشُ مفكراً في صومعةِ كتبٍ. صدرتْ للتو بضعةُ كتبٍ، جديدة، رائعة. لكن أعيش بين أكثرِ الكتب تعفناً وفساداً شبيهةً بتلة خفيفةٍ من الغبار. لا يتبقى إلا البنيانُ المعدنيُ وذراتٌ صغيرةٌ من معرفةٍ غيرِ قابلةٍ للاستعمالِ. الضوء يأتي من نوافذَ نادرةٍ، يعبرُ الصومعةَ دونما صعوبةٍ.


18

أعرف كي أجد بضعَ صورٍ مأخوذة بطريقة داكر في سَقِيْقَةٍ ـ صوراً نصفيةً رتَّبَها الزمنُ والضوءُ ـ أن النسيانَ شيءٌ كبير أن النسيانَ هو يانَصِيْبُنا الأجملُ.


19

أؤمن أن الله غيرَ موجودٍ. هذا مكتوبٌ من أجلي في كل مكانٍ في صومعةِ الكتب. هذا مقروء أيضاً عبر الكوى الزجاجيةِ الصغيرةِ. أعرف بعد الموتِ لا يوجدُ غيرُ الموتِ الذي لا يصنعُ أيَّ جلبة.


20

أعرف أنني ناظرٌ من خلال التخم بين اللغة والعالم، أرى الكون فوضى تتنامى. لكن لا أعرف حقيقةَ الوضع لو تسلقتُ حتى قمة شجرة "إحدى هذه الأشجارِ الموجودة على التَخْمِ بين العالمِ واللغةِ" حيث نرى بعيداً في الوقتِ نفسه، في اللغةِ والعالمِ.


21

أعرف، لأنني تسلقتُ حتى قمةِ شجرة، أن خلف اللغة، يوجدُ حقل شاسع، بزهورٍ رماديةٍ ودروبٍ مضللةٍ.



معز ماجد
(تونس)



ألوان الصيف


النسيمُ الفاترُ الأبيضُ

يعدُّ الأحلامَ على مسبحتِه

أفكارٌ رحالةٌ وغريبةٌ

ترفعُها نظرةٌ حارّةٌ وملتبسةٌ

كانتْ بهيةً ضحكةُ البؤبؤِ الشابِ

وعلى طولِ عنقِها المالحِ

تشتعلُ هذياناتٌ

والماءُ الباردُ يسيلُ

دونَ أن يطفئَ الاضطرامَ...

II

يطيلُ النهارُ المكوثَ قربَ الحصنِ

عاشقةٌ متبخرةٌ

هل سأراها من جديدٍ؟

شجاعةٌ شاسعةٌ

لهؤلاء العشاقِ البلا وجوهٍ

الذاهبينَ في فجرِ ليلٍ لا يحصى

يشفون ظمأَ رغبةٍ جشعةٍ

أوراقُ رقٍ من رملٍ صافٍ

تقودُ نظراتٍ مشوبةً بالضبابِ

نحو العاشقةِ العاريةِ


عندهم اضطرامُها شديدُ الرقةِ

إلى درجةِ أن الموتَ لديهم سهلٌ

III

من كهفِ السعادةِ

إلى تخومِ الريفِ الصافي

تتلوى دروبُ الصيفِ

فوق أعشابٍ يابسةٍ

وتلالٍ من حجارةٍ

شجرةُ الدراقِ مفعمةٌ

بضحكاتِ الطفولةِ

تحررُ النَفَسَ من كلِّ ضيائه

وعذوبتِه

والقيلولةُ تغطي الأحلامَ

بنعومةِ كسلِ أحداقٍ مغمضةٍ

IV

الأرجيلةُ سيدةُ ملذاتِ الليلِ

الكسلُ فضيلةُ الأرواحِ المطمئنةِ

الحنةُ تنبشُ الارتعاداتِ القديمةِ.

دوخاتٌ يشوبها الضبابُ

ذاكراتٌ مغلقةٌ

أيادٍ بيضاءُ

جدائلُ بنيةٌ

ضحكٌ مهينٌ

وحدقاتٌ لا تعرفُ الخجلَ.

في داخلي تزوبعُ ذكرى رائحةٍ

V

البخورُ يسحرُ...

الأغاني... الإيقاعاتُ

تؤججُ الحواسَ وتفتتُ القلوبَ.


تنحني الشموعُ

على روحي التائهةِ

والجنونُ يتلصصُ

من عتبةِ الصيفِ




عمودي


I

شجرةٌ،

شجرةٌ واقفةٌ،

في وسطِ حقلِ معركةٍ.

II

شجرةٌ تضعُ كبرياءها

مقابلَ كلِ ما هو مبتذل

شجرةٌ تستقي عزلتَها

من وجهِ الشمسِ.


في داخلك يبرعمُ النَفَسُ الدائريُّ للصمتِ؟

III

شجرةٌ ممونةُ القصبِ

بسرابٍ مرتجفٍ

حاملةٌ أحلاماً وأغصاناً غضةً

في أسفارٍ ساكنةٍ.


في داخلي تموتُ الفصولُ

IV

شجرة تموتُ واقفةً

كرجلٍ حرٍ

شجرةٌ لا تركعُ

ولا تفقدُ التوازنَ


فينا تأخذُ الحياةُ مقاسَها

V

شجرةٌ خضراءُ من الطمأنينةِ

وأخرى من الغيظِ

شجرةٌ لا تخافُ مطلعَ

عواصفَ ملتهبةٍ

على أوراقك الرطبةِ تولدُ الشمسُ من جديدٍ





سعادات جلية

I

المشيُ على أرضٍ حيثُ الظلُّ الصامتُ لخطوتي العاريةِ يكابدُ كحنشٍ وهو يزحفُ على الحجارةِ.

II

التقاطُ حجرةٍ ملساءَ غنيمةٌ انتصارٌ على العادةِ الرائعة.

III

السيرُ على العشبِ الرطبِ حافيَ القدمين

تَقْدِمَةٌ وانتجاعٌ بسيطٌ.

IV

اغترافُ أفعالٍ وصلواتٍ لإعادةِ حلمٍ ساقطٍ إلى الحياةِ.

كتابةُ أربعَ عشرةَ قصيدةَ حبٍ.

والانتصارُ على المتوحشين فقطْ بالعيش.

V

تحويلُ ما قد كان حقداً عنيداً إلى دموعٍ.

اللمسُ بشفتينِ رطبتينِ البرقَ العابرَ.

VI

دفنُ الكبرياءِ في مساءِ ألمٍ عظيمٍ

وتسليمُ الأسلحةِ دونما معركةٍ

VII

مشاركةُ الوضيعين مائدتهم

وفطمُ القلبِ عن أحلامِ طفولته

VIII

العيشُ ليومٍ واحدٍ ما يمكن أن يكونَ حياةً برمتها

وعيشُ حياةٍ برمتِها في قصيدةٍ غيرِ مكتملةٍ.

IX

ترويضُ الظلِ الجامحِ لدروب التيه

وشربِ الضوءِ الأشقر في صباحٍ ماطرٍ بغزارةٍ



نَفَس


في لحظاتِ الطمأنينةِ

التي تهدهدُ نشوةَ الأجسادِ

والقبابِ والشموعِ والبخورِ

التي تسمّر الأرواحَ والزمن

يا ذاكرتي... يا أرضي

كم من صلصالٍ،

ورمادٍ وحجارةٍ

كم من أنفاسٍ لاذعةٍ ومكسورة

كم من أملاحٍ وومضاتٍ باردة

أبوابٌ تحفظُ بشفافية

الرقة البسيطة لآياتٍ وتغضُّناتٍ

ثمة صمتٌ

وخطواتٌ وأناشيد

تستنشقُ الأعمار

وتشققاتِ الزمن

ثمة نساءٌ

يلازمنَ رؤانا

وليالي صيف وأحلام غريبة

ثمة ماءٌ يسيل

ومؤذّنون

صباحات صلوات

عند بوارقِ الضوء الأولى

يا ذاكرتي... يا أرضي،

أين يمكنني أن أضع

 غفلتي وقلبي؟

أين يمكنني أن أترك

كلَّ غنائمِ الحرب؟


 

* ترجم القصائد عن الفرنسية صالح دياب

المساهمون