مخبز الحرية

31 أكتوبر 2017
+ الخط -
سحقًا له من صديقٍ لم ينتخب غير هذا الاسم لمخبزه الذي افتتحه، حديثًا: "مخبز الحرية"..
لنقل إنني أتفهم ذلك الدافع الغامض الذي ورّط صديقي بإطلاق هذا المسمّى على مخبزه، بعد أن "خبزت" السجون ثلاثة أرباع عمره، فأورثته إحساسًا عميقًا بفقد الحرية، ولربما رأى في هذا الاسم عزاء ذاتيًا عن حريةٍ أخفق في تحقيقها طوال سنوات مكابداته في طلبها، لكن جزاءه كان من جنس عمله؛ لأنه اختار الشغب على السلطة دربًا وحيدًا يفضي إليها.
لم أحاول أن أقنعه بعقم اختياره؛ لأنني خشيت أن أهشّم آخر أحلامه بالحرية، على الرغم من أنه كان يمضي إلى تلك الخاتمة الدرامية بعجينه الذي يرقّقه صباحًا بيديه، من دون أن يشعر. كنت أود أن أقول له: "كيف لمناضلٍ عنيد، مثلك، أن يتغافل عن هذا التناقض العجيب بين الخبز والحرية في أوطاننا العربية.. ألم تدرك استحالة اجتماعهما معًا؟". لكن الأوان فات، لأن صديقي شرع بالعمل محمومًا، وكأنه يسعى إلى استدراك ومضة حياة أخيرة في عروقه.
قال لي مرة، في مطلع عمله الجديد: "أتدري، يا صديقي، أشعر، من خلال هذا الاسم الذي اخترته، أنني سأبيع الناس الحرية لا الخبز، سيأتون إليّ طوابير، أشبه بـ"المظاهرات" التي كنا ننخرط فيها زمان، أتذكّر؟ فأستعرض جحافلهم بنشوة، وأبيع كلّ واحد منهم كيلوغرامًا من الحرية، زادهم اليومي، بانتظار يوم جديد ومؤونة أخرى. وعلى من يطلب زاد يومين أو ثلاثة أن يدفع ضعفين، هكذا هي الحرية، كلما عظم حجمها زاد ثمنها.. أليس كذلك؟.. ثم إنهم سيختارون مخبز الحرية، طوعًا، ولن يلجأوا إلى أي مخبز آخر، لأن في أعماقهم توقًا إلى ما يفتقدون".
كان يتحدث باندفاع طفلٍ مقبلٍ على اكتشاف جديد، ولم أشأ أن أصدمه بحقيقة أن "خبز الحرية" الذي يعتزم حقنه في جسد الشعب هو "خبز العبودية" ذاته الذي تحقنه السلطة في جسد الشعب، للإبقاء عليه في قفص الخضوع. كنت أريد أن أقول له إن كل كيلوغرام من الخبز يبتاعه المواطن يخطف من فضائه كيلوغرامًا مقابلًا من الحرية، وليس كما تخيل هو.
ولم أشأ أن أقول له، أيضًا، إن المعضلة لا تتصل برغيف الخبز الصغير نفسه، بل بحيز القهر والكبت والقمع المحيط بهذا الرغيف؛ إذ يدخل المواطن إلى المخبز محنيّ القامة، يجر خلفه إرثًا من التنازلات التي بدأت منذ أذعن للشروط التي فرضها عليه حكّامه، كي يُسمح له بالحصول على هذا الرغيف، ورضي بفتات المقسوم الرسمي، لا ليكون حرًا، بل للنجاة من السجن فقط، وهو لا يدري أن الفضاء الذي يفتقد الحرية سيكون سجنًا هو الآخر، حتى لو كان بحجم الكون كله.
ومع كل رغيف يحرزه، يموت فيه حلم ما، والسلطة ماكرةٌ في ابتداع أدوات تعليق حياة المواطن بها، لتصبح في نهاية المطاف (في نظر هذا المواطن نفسه) مثل أسطوانة الأكسجين في غرف الإنعاش، فيتعلم النفاق لها والتمسح بها ليتّقي شرّها، أو يلجأ أصحاب الكبرياء منهم إلى التزام جانب الصمت، وغض البصر عنها، وعن كل ما يحيط بهم حتى، كي يظلّوا قادرين على الحصول على رغيف الخبز. وكلما دخلوا المخبز، شعروا كأنهم يحظون بفرصة جديدة للنجاة، وهكذا تتكرّر الدوامة التي تشبه استدارة الرغيف العربي ذاته، وأحسب أن هذه الاستدارة متعمدة في رمزيتها، كي يظل المواطن دائرًا حول نفسه، لا يحرز أي خطوة تقدّم إلى الأمام، على عكس الرغيف (الإفرنجي) المستقيم.
طبعًا، لم أقل هذا لصديقي، بل تركته يعيش تجربته وحده، إلى أن علمت أخيرا أنه أغلق المخبز، وعاود الشغب والتمرد، فسجن مرة أخرى، لكنه ترك لي رسالة صغيرة مدونًا فيها: "أتعلم، يا صديقي.. خبز الحرية الوحيد الذي شعرت بلذته هو خبز السجن فقط".
دلالات
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.