انتهى المخاض الطويل والعسير لولادة الحكومة التونسية الجديدة، التي كُلف الحبيب الجملي بتشكيلها، بعد رحلة تجاوزت الشهر ونصف الشهر، بإعلانه عن تشكيلتها مساء أول من أمس الخميس، لينهي هذا الأمر جدلاً طويلاً، وتقلّبات متعددة شهدها مسار التشكيل، والذي بدأ مع فكرة تشكيل حكومة مكوّنة من أحزاب العائلة الثورية، ثم حكومة الكفاءات السياسية، لتستقر في النهاية على حكومة كفاءات مستقلة، بالرغم من المحاولات الفاشلة في آخر لحظة لجمع الأحزاب الأربعة، "حركة النهضة" و"التيار الديمقراطي" وحركة "الشعب" و"تحيا تونس"، وإقصاء "ائتلاف الكرامة".
ووجّه الرئيس التونسي قيس سعيّد، الخميس الماضي، رسالة إلى رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي، بعد تسلّمه القائمة التي عرضها عليه الجملي، وفق أحكام الفصل 89 من الدستور بهدف عرض تشكيلة الحكومة على الجلسة العامة البرلمانية لنيل الثقة. وأعلن مجلس النواب أن رئيسه راشد الغنوشي دعا مكتب المجلس، الباقي في حالة انعقاد، إلى الالتئام اليوم السبت لتنظيم الجلسة العامة المخصّصة لمنح الثقة للحكومة المقترحة، التي يبدو أنها ستعقد بداية الأسبوع المقبل. وبالرغم من مزاعم الاستقلالية الحزبية عن هذه التشكيلة الحكومية، إلا أنها ستحاول الحصول على دعم "النهضة" و"قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة"، وربما تنجح في إقناع بعض نواب كتلتي "الإصلاح الوطني" و"المستقبل"، وهو ما كانت أكدته منذ البداية مصادر حزبية لـ"العربي الجديد"، حتى أثناء المحاولات الأخيرة لبحث تشكيل الحكومة الثورية.
وأعرب الجملي، خلال مؤتمره الصحافي الخميس، عن ثقته في أن تحصل التشكيلة الحكومية المقترحة، على ثقة مجلس النواب. وأعلن أنه شكّل الحكومة على أساس الكفاءة، وتحرّى عن كل الأسماء التي اقترحها، مؤكداً أن الوزراء المقترحين جميعهم مستقلّون ويستجيبون للمؤشرات التي حددها. وأكد، في المقابل، أنه "إذا ثبت العكس في مستوى النزاهة والمصداقية والكفاءة، فإني لن أتردد في إصلاح الوضع"، داعياً الجميع إلى "تجنّب التشكيك غير المبرر". واعتبر أن مسؤوليته تتمثل في تقديم الحكومة إلى النواب، وأن لهم الحق في التصويت لصالحها أو ضدها، مشيراً إلى أنه في الحالتين "سيخرج مرتاح الضمير"، وأنه بذل جهوداً كبيرة للتوصل إلى تشكيل الحكومة.
ويبدو أن مصاعب الجملي لم تنتهِ مع تشكيل الحكومة، وهو سينتظر أولاً موقف حزبي "النهضة" و"قلب تونس"، خصوصاً مع تعالي أصوات كثيرة تُخالف خياراته داخل حزب "النهضة" الذي كلفه. وسيكون اجتماع مجلس شورى الحركة، اليوم السبت وغداً الأحد، ساخناً جداً. ويُتوقع أن تتعرض التشكيلة الحكومية لقصف ممنهج، خصوصاً من القياديين الذين يعتبرون أن الحكومة المستقلة تمثل ضرباً للعمل الحزبي ولنتائج الانتخابات، وكانوا يعتقدون أن الفرصة متاحة لكي تعزز الحركة دورها في الحكم وتتحمل مسؤولياتها في ذلك، لا مسؤولية حكومة شخصياتها مستقلة ولا رصيدَ سياسياً لها لتخاف على فقدانه. لكن مجلس شورى الحركة وهؤلاء القياديين الرافضين، بالذات، هم الذين فرضوا اسم الجملي من بين أسماء أخرى، لتصبح أمام تحدي تحمّل مسؤولياتها في ذلك. وبقطع النظر عن الخلافات الداخلية في "النهضة"، وعلاقتها بمسألة المؤتمر المقبل الذي تدور حوله كل الخلافات، فإنه لا يُعتقد أن يشكّل التصويت للحكومة مشكلة كبيرة، لأن الحركة لا تملك في الواقع خياراً آخر إلا إذا كانت تنوي الذهاب للمعارضة وقلب المعادلة جذرياً بتسليم المبادرة لسعيّد ومن يسانده في خيار حكومة الرئيس، التي ينص عليها الدستور إذا ما فشل الحزب الأول برلمانياً في مسعاه.
أما الحزب الثاني، "قلب تونس"، فقد بدت مواقفه متضاربة هو الآخر، إذ قال القيادي فيه عياض اللومي إن المجلس الوطني للحزب سينعقد غداً الأحد، وسيحدد موقف الحزب بشأن التصويت لصالح تشكيلة الحكومة المقترحة. وأكد اللومي، في تصريح صحافي، عقب اجتماع للمكتب التنفيذي لـ"قلب تونس"، أن الحزب لا ينظر إلى الحكومة المقترحة فقط من زاوية الأسماء المعلن عنها، وإنما أيضاً من زاوية مُكوّنات برنامجها، مبيناً أن مسألة محاربة الفقر تعد من النقاط التي يوليها "قلب تونس" أهمية كبرى. وشدّد اللومي على أن الحزب "لم يحسم بعد موقفه بشأن التصويت للحكومة المعلنة في انتظار دراسة أسماء أعضاء الحكومة المقترحين، ومدى استقلاليتهم الحقيقية، وأيضاً في انتظار قراءة الحزب لبرنامجها المعلن". لكن هذا الكلام المتوازن يتعارض مع البيان شديد اللهجة الذي أصدره الحزب قبيل إعلان الجملي عن تشكيل حكومته، وأكد فيه أن منح كتلته الثقة للحكومة "رهن التشاور المسؤول والرسمي مع قيادة الحزب، واطلاعه بصفة رسمية على برامج الحكومة والقائمة الوزارية المفترضة والتشاور بشأنها".
وشدّد البيان على "رفض قلب تونس القطعي التعامل مع القائمة الوزارية المقترحة، من خلال ما يصدر من تسريبات عبر مواقع التواصل"، معلناً أن لا مفاوضات جمعت الحزب بالجملي، كما لم يتم الحديث في ما يتعلق بمقترحات حول الأسماء والمهام المطروحة في الحكومة. واعتبر أن التعامل المطلوب في هذه المرحلة يقتضي الالتزام بمنطق الدولة والمؤسسات، في مناخ تسوده الثقة والاحترام المتبادل بين المؤسسات والهياكل المكونة للمشهد الحكومي والسياسي. مقابل ذلك، لا يزال موقف المكوّن الثالث، "ائتلاف الكرامة"، غامضاً هو الآخر، فأغلبية قياداته تؤكد أنها ذاهبة للمعارضة، وأنها لن تصوّت لحكومة فيها "قلب تونس"، بينما تؤكد مصادر حزبية، لـ"العربي الجديد"، أنه لن يعارض التصويت، وأن وزراء في هذه الحكومة قريبون من الائتلاف.
في الجانب الآخر، تبدو الأمور محسومة وواضحة، إذ تتجه أحزاب "التيار الديمقراطي" و"الشعب" و"تحيا تونس"، بالإضافة طبعاً إلى "الحزب الحر الدستوري"، إلى عدم التصويت على الحكومة، لكن تدوينة قصيرة للقيادي البارز في "التيار" غازي الشواشي لفتت الانتباه، خصوصاً أنها جاءت بعد ساعات من إعلان الجملي عن تشكيلة حكومته. وقال الشواشي، في هذه التدوينة بصفحته على موقع "فيسبوك"، إن "على رئيس الدولة قيس سعيّد الاستعداد من الآن لاختيار الشخصية الأقدر لتشكيل الحكومة المقبلة"، بما تحمله من إشارة أولى إلى أن حكومة الجملي ستسقط في اختبار البرلمان، وثانية بأن هناك نوايا للذهاب إلى حكومة الرئيس التي ينادي بها حزبه ويتمنى تحقيقها. وفي ظل هذا المناخ من الانقسام، يتساءل المواطنون التونسيون عن مدى إمكانية نجاح أي حكومة في تحقيق شيء مهم ينتظرونه ويحدث فرقاً حقيقياً في حياتهم اليومية.