محنة الاجتماع السياسي الفلسطيني

05 يوليو 2014

طفلة فلسطينية في منزل أسرتها في خان يونس (أبريل/2014/Getty)

+ الخط -
عندما بدأت تطبيقات اتفاق "أوسلو"، كان الخطاب الفلسطيني الذي يشدد على نبذ "العنف"، وعلى الالتزام بمنعه، والتعاطي معه باعتباره عنفاً عبثياً مضاداً للمصلحة الوطنية. وكان هناك، على الجانب الآخر من المعادلة، ما يأخذه الفلسطينيون على مستوى الحياة اليومية، وسهولة الحركة، وهامش التعبير عن الطموحات الوطنية، وعن مشروعية أحلامنا القريبة. وعلى الرغم من شكلانية ما أعطي للفلسطينيين في السنوات الخمس الأولى، منذ سبتمبر 1993، فإن الفلسطينيين أحسّوا بأن الأخذ بناصية العملية السلمية أكثر فائدة من المُضي في الانتفاضة التي تخللتها عوامل الفوضى والشطط، واتسمت، في فتراتها الأخيرة، بانفلاتٍ لا كابح له. فقد حدث ذلك للانتفاضة، بتدابير استخبارية احتلالية مضادة ومعقدة، فعلت فعلها، لكي تتحول الظاهرة الشعبية إلى وضعية الظاهرة العنفية، ولكي يحتشد المسلحون في مراكز الكثافة السكانية التي حوصرت وهي مبوَّبة، لتسهيل "فتحها" بعمل عسكري من النوع الذي تشهده الحروب بين الجيوش. قبلها، يكون تُرك لبعض العناصر الرديئة هامش للحركة، تتغذى فيه عندهم أوهام القوة والتمكن بالسلاح، وفي بعض الحالات، تقترب الممارسات من التسبب في نزاع مجتمعي. وهذه الأفاعيل من مألوف عادات المستعمرين التي تقع في باب الفتن.

بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، وعلى رأسها الراحل ياسر عرفات، تفشى انطباع ساذج بأن الخوض في غمار السياسة يجري بشيء من النديّة، وبأن فلسطين باتت طرفاً رئيساً، ليس في الصراع وحسب؛ وإنما في كل المعادلات الكونية. وعندما قورن التحسن في تدابير الحياة اليومية وسلوك الاحتلال بعد "أوسلو" بما كان عليه الحال قبلها؛ شعر الفلسطينيون أن هناك مردوداً معقولاً للتهدئة. وبالطبع، لم يخطر في ذهن أحد ممن يصوغون الخطاب السياسي، أن يتذكر ما كان يحظى به الفلسطينيون قبل اندلاع الانتفاضة الأولى (8 -12- 1987) على صعيد هوامش الحركة والعمل، وهما أهم مجالين دون السياسة وجوهر القضية. فقد كان المواطنون من غزة، يستطيعون أداء الصلاة في المسجد الأقصى وقتما شاءوا، ثم القيام، بعد ظهر الجمعة، نفسها بسياحة في هضبة الجولان. ولما أبرمت اتفاقية أوسلو" كان النظر إلى "الأفضل" قياساً على ما كان عليه الحال في أثناء الانتفاضة، وليس على ما قبلها.

لقد تعوّد الاحتلال، أينما تمكنت قبضته العسكرية من مكان، مقايضة تسهيل حياة السكان بسكينتهم التي تساعد على شؤونٍ أخرى، تتعلق بمقاصده الاستراتيجية. فلا تُعد ولا تُحصى أرباح الاحتلال من هذه السياسة. فعندما ينهار النسق الوطني العام، المقاوم أو المقاتل في الحروب، تصبح الناس معنيةً بشؤون حياتها، وخصوصاً عنصري الحركة والعمل. وعندما ضاعف عدوان 1967 الأراضي المحتلة نحو خمسة أضعاف (مع شبه جزيرة سيناء)، كانت حركة المواطن العربي متاحة في كل الأرجاء. وكان موشي دايان، وزير الحرب المنتصر، أعلن عن سياسة الجسور المفتوحة مع الخارج، والخطوط المفتوحة في الداخل. لذا، لم يكن هناك شيء على صعيد العناصر الأساسية للحياة نفسها، يقلق الرازحين تحت نير الاحتلال. فما كان يُقلقهم، هو العامل الموضوعي المتعلق بحريتهم وعزهم وهويتهم وطموحهم الوطني كشعب، لا كأفراد يريدون سهولة الانتقال، والتقاط رزقهم في سوق العمل!

غير أن ما آلت إليه أمور الانتفاضة الطويلة الأولى، بعد نحو أربع سنوات من اندلاعها، جعلت من الصعوبة بمكان، تحقيق الانتصار، وإجلاء الاحتلال، بالكيفية التي أرادها المنتفضون، وخصوصاً لأن الكارثة وقعت خلال سنوات الانتفاضة، عندما اندلعت حرب الكويت، وانقسم العالم العربي، وفقدت الحركة الوطنية الفلسطينية مصادر إسنادها المالي والإعلامي، ولم يعد الفلسطينيون قادرين على الحركة، وطردوا بالجملة من بعض أقطار الخليج. أما في بعض بلدان القلب العربي، فكأنما صدرت مذكرة إلقاء قبض جماعي على الشعب الفلسطيني، ونشأت بانوراما العذاب، في المطارات والمحتجزات، للفلسطينيين الأبرياء.

رأى كثيرون في بدايات "أوسلو" فرصة لالتقاط الأنفاس، وانفتاحاً لثغرة في الحصار بالابتسامات الإسرائيلية والأميركية وابتهاج النظام العربي. ذلك كله جعل هذا التطور مقبولاً شعبياً، على أمل أن يُبنى عليه. وفي السياق، تقبل الرأي العام الفلسطيني في الداخل تدابير منع العنف، وتدابير "التنسيق الأمني"، وهذا، في جوهره المحدد، آلية اتصال للحيلولة دون اجتياحات الجيش الإسرائيلي بذريعة الخطر الأمني. لكن الواقع المُزري الذي يعيشه الفلسطينيون، اليوم، يوفر عناصر الانفجار الشعبي في كل اتجاه. لقد فشلت السلطة، ومعها الوسيط الأميركي والرباعية، في صياغةٍ، ولو مخادعة، تتعلق بشروط الحياة وتدابير الحركة والعمل للفلسطينيين، كأن تعود قوات الاحتلال إلى مواضع خارطة انتشارها قبل 28/9/2000، وأن يُعاد العمل بمحددات تصنيف المساحات من A  الى C، لكي تفتح مجالاً لأهالي الضفة الفلسطينية للتنفس، ولا سيما أن السلطة فعلت، من خلال أجهزتها الأمنية، كل ما اشترطته "خارطة الطريق" من استحقاقات أمنية!

في هذه الأثناء، اجتمعت ثلاثة عناصر شديدة الخطورة على استقرار المجتمع الفلسطيني في الضفة (وهنا نجعل غزة خارج السياق، لأن مصيبتها ذات سمات استثنائية تحتاج إلى سياق خاص). الأول، وهو من شقين، وأحدهما أقبح من الآخر؛ أن التنسيق الأمني بات مجانياً ويُجاهر به، وهو لا يُقايض بأي تسهيل للحياة والحركة، والعمل على أي صعيد. هذا إنْ حذفنا من قائمة مبررات هذا التنسيق لزوم التقدم في العملية السياسية، وهي جوهر الأمر وعلته. هنا، يصبح دور السلطة أن تنسق أمنياً، فيما الناس محاصرون ومضغوطون ومحرومون من الحركة والصلاة في الأقصى والتوجه إلى سوق العمل أو زيارات الأسرى ومعرضون للهجوم من قبل المهووسين المستوطنين. أما الشق الثاني من العنصر الأول، فهو أن فحوى التنسيق الأمني نفسه اختلف عن سنواته الأولى. فبدل أن ينتهي بانتهاء ضرورته، لأن الاحتلال يوجد أمنياً في كل مكان، وليس في حاجة إلى تنسيق؛ توسع الطرفان، الفلسطيني والإسرائيلي، في تطبيقاته، لتصبح آلياته، وطريقة عمله، مختلفة تماماً عن صيغة وجوده الأولى.

العنصر الثاني الشديد الخطورة أن السلطة التي تنسّق، وفي الوقت نفسه تدعو إلى المقاومة الشعبية، لم تعد تطيق الاحتشاد الشعبي في أي مكان، ولا على المستوى الفئوي النقابي. تتذرع بالشعارات التي يطلقها المحتجون، لكي تقمع، وفي كل مرةٍ تقول إنها تُحقق في واقعة القمع، ويتكرر السلوك نفسه. هنا، يصبح الضغط من الداخل الفلسطيني على مجتمع مضغوط أصلاً على كل صعيد، عنصر انفلات وتفجير للمجتمع في كل وجهه. أما العنصر الثالث الخطير فهو اللغة العجيبة التي رأت أن الخطاب السياسي الفلسطيني مخصص للخارج، أو للأميركيين والأوروبيين دون سواهم. وهذه مصيبة بحد ذاتها، إذ كيف يكون النطق في مسائل تتعلق بدم الناس وحياتها ومصيرها، بلغة للخارج دون الداخل، بينما الخطاب هو الخطاب الذي يسمعه الجميع؟ إن الشعوب، تقّيم أداء قادتها يوماً بيوم، ولا تشفع للقادة مآثرهم، إن كانت لهم مآثر يتبعها أخطاء فادحة. فالنصر المؤزر نفسه لم يُتح لشارل ديغول، وهو من هو في معايير التاريخ، أن يتحاشى الإطاحة. ثمة حاجة للتركيز على معنى الاجتماع السياسي لشعبٍ، تحت الاحتلال، وشروط تحقيق هذا الاجتماع، أو إخراجه من محنته، للإقلاع به؟!