19 نوفمبر 2024
محمد نوح والدولة و"الإخوان" في الأردن
بخلاف توقعات كلّ من حزب جبهة العمل الإسلامي (الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين الأمّ في الأردن)، ودوائر القرار في عمّان، فإنّ التحدي الكبير والحقيقي لشعبية "الإخوان" وجماهيريتهم لم يأتِ عبر الحركات الإسلامية (المنشقة عن الجماعة)، مثل جماعة الإخوان الجديدة، وحزب زمزم، ولا حتى من حزب الوسط الإسلامي (الأكثر قدماً وحضوراً من الكيانات الجديدة السابقة)، بل جاء من شخصية إسلامية، ذات خلفية غير إخوانية، وهو الدكتور محمد نوح القضاة، وقائمته في الانتخابات النيابية المرتقبة "يقين".
سبب الخشية تكمن في ما يتمتع به القضاة من حضور شعبي كبير، ما ينافس بحقّ جماعة الإخوان المسلمين، في أحد أهم معاقلها الانتخابية، مدينة الزرقاء، خصوصاً أنّه يأخذ من حصة الصوت الإسلامي المحافظ عادة، الذي يذهب جزء كبير منه في العادة إلى الجماعة، بينما تشير استطلاعات أوّلية للرأي، غير معلنة، إلى أنّ القضاة يتفوق بمسافات كبيرة على منافسيه، حتى من قائمة جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت تطمح إلى تحقيق نتائج كبيرة في مدينةٍ تجيّر عادة نسبة معتبرة من الأصوات لصالح "الإخوان".
أحدث هذا التحدّي غير المتوقع لدى كل من الجماعة ودوائر القرار ارتباكاً في التعامل معه، "الإخوان" أولاً في محاولة تفسيره، فيما إذا كان "فخّاً" نصبته الدولة للجماعة لإضعافها في أماكن نفوذها. ولدى الدولة ثانياً في كيفية التعامل مع شخصية دينية- سياسية لها حضور مميّز، وشعبية جارفة، وليس "في متناول اليد"، مثل الشخصيات السياسية والنواب الذين تفضّل الدولة التعامل معهم!
إذاً، هذا وذاك يدفع إلى الولوج أكثر في فهم شخصية محمد نوح القضاة، ومصادر القوة التي يمتلكها.. محمد نوح القضاة هو امتداد لمدرسة دينية لها حضورها وتاريخها في الأردن، فهو نجل الشيخ، الدكتور نوح القضاة، المفتي العام السابق للقوات المسلّحة، ثم مفتي المملكة، وقريب الشيخ، الدكتور علي الفقير، الذي كان أيضاً من مؤسسي وقياديي الإفتاء في القوات المسلحة، ونائباً في برلمان 1989، ووزيراً للأوقاف، ولهما، أي نوح القضاة وعلي الفقير، أبناء وأشقاء على الدرب نفسه، متخصصون في الشريعة الإسلامية، وحملة شهادات عليا، وكذلك الحال في أوساطهم القرابية.
مدرسة نوح القضاة وعلي الفقير دينية، تنتمي إلى الصوفية الأشعرية المعتدلة، وكان للرجلين دور كبير في تأسيس دائرة الافتاء الديني في القوات المسلّحة ورعايتها، حتى وصل إلى مرحلة كبيرة من التوسع. وعلى الرغم من أنّهما قد يحسبان ظاهرياً على "المؤسسة الدينية الرسمية"، إلاّ أنّهما يمثلان حالةً مختلفة داخلها، إذ عملا في عقدي السبعينيات والثمانينيات على تطوير مؤسسة الافتاء، ومنحها مساحة من الاستقلالية والمصداقية، ثم دخلا إلى المجال العام بعد خروجهما من الإفتاء، نوح القضاة عبر تعيينه مفتياً للدولة مرتين، وعلي الفقير عبر ترشّح للانتخابات في 1989، وتعيينه وزيراً للأوقاف.
لم يكن هنالك تطابق كبير في التصورات الدينية والإصلاحية بين الرجلين، فهنالك اختلافات، لكنّهما في الصميم شكّلا حالةً فريدة في المجال العام الأردني، ولعلّ الفرق الجوهري بينهما؛ أنّ علي الفقير فضّل الكلام العلني، حتى في مواقفه المعارضة، بينما التزم نوح القضاة الصمت، حتى في أشد مراحل الاختلاف بينه وبين الدولة، فرفض إعطاء "مباركةٍ" على معاهدة السلام، فأقيل من منصبه في التسعينيات، ثم عندما أعيد تعيينه ثانية قبل أعوام لم ينسجم مع توجهات الدولة العامة، فأقيل من منصبه، مرّة أخرى، قبل أن ينتقل إلى الدار الآخرة، فيما وجد علي الفقير نفسه محاصراً من الدولة والإسلاميين، ففضّل الاعتكاف بعيداً عن عالم السياسة وعن المجال العام.
في الوقت الذي بدت فيه المدرسة السابقة في طور الاندثار والأفول، مع عدم وجود امتداد واضح لها في المؤسسة الدينية الرسمية، ولا حتى في الأوساط الاجتماعية، بدأ نجم محمد نوح القضاة بالصعود، فهو ابن هذه المدرسة، بامتياز، وإن كان أقرب إلى والده في براغماتيته ومرونته من الطبيعة الحادّة للشيخ علي الفقير، إلاّ أنّه يأخذ مسار الثاني (أي علي الفقير) في الانتقال إلى العمل العام والسياسي، الوزارة، ثم الترشّح للنيابة، والإفصاح عن مواقفه الفكرية، وامتلاكه ملكة الخطابة، والشخصية الكارزمية، وطوّر القدرات المؤسسية لتلك المدرسة، فأسّس جمعياتٍ وإذاعةً لها حضور كبير، وبات شخصيةً قوية، إلى درجة أنّه اعتُبر، في ثلاثة أعوام متتالية، من أكثر الشخصيات تأثيراً في الأردن، وفق استطلاع أجرته الإذاعة الرسمية.
يلتزم محمد القضاة بأصول تلك المدرسة دينياً؛ فهو صوفي أشعري، لكنّه أقرب إلى التصالح والمصالحة مع السلفيين، لا الخيار الصدامي الذي أخذته المدرسة مع الشيخين الكبيرين، وسياسياً يوازن بين خطاب نقدي احتجاجي شعبوي (ضد الفساد والمطالبة بالإصلاح...) وإدراك الخطوط الحمراء جيداً لدى الدولة، وعدم الاصطدام بها.
ما قد يزعج بعض مراكز القرار من نوح القضاة يتجاوز مساحة استقلاليته، ما يصعّب تعامل الدولة معه، إلى أمرين اثنين. الأول، نجوميته وشعبيته، وهي ظاهرة لا تلقى ارتياحاً له أو لغيره، وخصوصاً من شخص يمتلك مرجعية دينية وامكانيات كارزمية وطموحاً سياسياً. والثاني، أنّ هنالك توجها متنامياً في بعض أوساط القرار النافدة يتجه أكثر إلى "الخصومة" في الحدّ الأعلى مع أي تيار إسلامي (مثل جماعة الإخوان، وعدم الارتياح في الحدّ الأدنى من هذا الحضور مثل محمد نوح القضاة)، وتتأسّس رؤية هذا التيار على قناعةٍ بأنّ زمن التحالف مع الإسلاميين انتهى، وأن الدولة دفعت ثمناً باهظاً له، وأنّ الأفضل عدم إعطائهم فرصة للصعود مرّة أخرى.
سبب الخشية تكمن في ما يتمتع به القضاة من حضور شعبي كبير، ما ينافس بحقّ جماعة الإخوان المسلمين، في أحد أهم معاقلها الانتخابية، مدينة الزرقاء، خصوصاً أنّه يأخذ من حصة الصوت الإسلامي المحافظ عادة، الذي يذهب جزء كبير منه في العادة إلى الجماعة، بينما تشير استطلاعات أوّلية للرأي، غير معلنة، إلى أنّ القضاة يتفوق بمسافات كبيرة على منافسيه، حتى من قائمة جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت تطمح إلى تحقيق نتائج كبيرة في مدينةٍ تجيّر عادة نسبة معتبرة من الأصوات لصالح "الإخوان".
أحدث هذا التحدّي غير المتوقع لدى كل من الجماعة ودوائر القرار ارتباكاً في التعامل معه، "الإخوان" أولاً في محاولة تفسيره، فيما إذا كان "فخّاً" نصبته الدولة للجماعة لإضعافها في أماكن نفوذها. ولدى الدولة ثانياً في كيفية التعامل مع شخصية دينية- سياسية لها حضور مميّز، وشعبية جارفة، وليس "في متناول اليد"، مثل الشخصيات السياسية والنواب الذين تفضّل الدولة التعامل معهم!
إذاً، هذا وذاك يدفع إلى الولوج أكثر في فهم شخصية محمد نوح القضاة، ومصادر القوة التي يمتلكها.. محمد نوح القضاة هو امتداد لمدرسة دينية لها حضورها وتاريخها في الأردن، فهو نجل الشيخ، الدكتور نوح القضاة، المفتي العام السابق للقوات المسلّحة، ثم مفتي المملكة، وقريب الشيخ، الدكتور علي الفقير، الذي كان أيضاً من مؤسسي وقياديي الإفتاء في القوات المسلحة، ونائباً في برلمان 1989، ووزيراً للأوقاف، ولهما، أي نوح القضاة وعلي الفقير، أبناء وأشقاء على الدرب نفسه، متخصصون في الشريعة الإسلامية، وحملة شهادات عليا، وكذلك الحال في أوساطهم القرابية.
مدرسة نوح القضاة وعلي الفقير دينية، تنتمي إلى الصوفية الأشعرية المعتدلة، وكان للرجلين دور كبير في تأسيس دائرة الافتاء الديني في القوات المسلّحة ورعايتها، حتى وصل إلى مرحلة كبيرة من التوسع. وعلى الرغم من أنّهما قد يحسبان ظاهرياً على "المؤسسة الدينية الرسمية"، إلاّ أنّهما يمثلان حالةً مختلفة داخلها، إذ عملا في عقدي السبعينيات والثمانينيات على تطوير مؤسسة الافتاء، ومنحها مساحة من الاستقلالية والمصداقية، ثم دخلا إلى المجال العام بعد خروجهما من الإفتاء، نوح القضاة عبر تعيينه مفتياً للدولة مرتين، وعلي الفقير عبر ترشّح للانتخابات في 1989، وتعيينه وزيراً للأوقاف.
لم يكن هنالك تطابق كبير في التصورات الدينية والإصلاحية بين الرجلين، فهنالك اختلافات، لكنّهما في الصميم شكّلا حالةً فريدة في المجال العام الأردني، ولعلّ الفرق الجوهري بينهما؛ أنّ علي الفقير فضّل الكلام العلني، حتى في مواقفه المعارضة، بينما التزم نوح القضاة الصمت، حتى في أشد مراحل الاختلاف بينه وبين الدولة، فرفض إعطاء "مباركةٍ" على معاهدة السلام، فأقيل من منصبه في التسعينيات، ثم عندما أعيد تعيينه ثانية قبل أعوام لم ينسجم مع توجهات الدولة العامة، فأقيل من منصبه، مرّة أخرى، قبل أن ينتقل إلى الدار الآخرة، فيما وجد علي الفقير نفسه محاصراً من الدولة والإسلاميين، ففضّل الاعتكاف بعيداً عن عالم السياسة وعن المجال العام.
في الوقت الذي بدت فيه المدرسة السابقة في طور الاندثار والأفول، مع عدم وجود امتداد واضح لها في المؤسسة الدينية الرسمية، ولا حتى في الأوساط الاجتماعية، بدأ نجم محمد نوح القضاة بالصعود، فهو ابن هذه المدرسة، بامتياز، وإن كان أقرب إلى والده في براغماتيته ومرونته من الطبيعة الحادّة للشيخ علي الفقير، إلاّ أنّه يأخذ مسار الثاني (أي علي الفقير) في الانتقال إلى العمل العام والسياسي، الوزارة، ثم الترشّح للنيابة، والإفصاح عن مواقفه الفكرية، وامتلاكه ملكة الخطابة، والشخصية الكارزمية، وطوّر القدرات المؤسسية لتلك المدرسة، فأسّس جمعياتٍ وإذاعةً لها حضور كبير، وبات شخصيةً قوية، إلى درجة أنّه اعتُبر، في ثلاثة أعوام متتالية، من أكثر الشخصيات تأثيراً في الأردن، وفق استطلاع أجرته الإذاعة الرسمية.
يلتزم محمد القضاة بأصول تلك المدرسة دينياً؛ فهو صوفي أشعري، لكنّه أقرب إلى التصالح والمصالحة مع السلفيين، لا الخيار الصدامي الذي أخذته المدرسة مع الشيخين الكبيرين، وسياسياً يوازن بين خطاب نقدي احتجاجي شعبوي (ضد الفساد والمطالبة بالإصلاح...) وإدراك الخطوط الحمراء جيداً لدى الدولة، وعدم الاصطدام بها.
ما قد يزعج بعض مراكز القرار من نوح القضاة يتجاوز مساحة استقلاليته، ما يصعّب تعامل الدولة معه، إلى أمرين اثنين. الأول، نجوميته وشعبيته، وهي ظاهرة لا تلقى ارتياحاً له أو لغيره، وخصوصاً من شخص يمتلك مرجعية دينية وامكانيات كارزمية وطموحاً سياسياً. والثاني، أنّ هنالك توجها متنامياً في بعض أوساط القرار النافدة يتجه أكثر إلى "الخصومة" في الحدّ الأعلى مع أي تيار إسلامي (مثل جماعة الإخوان، وعدم الارتياح في الحدّ الأدنى من هذا الحضور مثل محمد نوح القضاة)، وتتأسّس رؤية هذا التيار على قناعةٍ بأنّ زمن التحالف مع الإسلاميين انتهى، وأن الدولة دفعت ثمناً باهظاً له، وأنّ الأفضل عدم إعطائهم فرصة للصعود مرّة أخرى.