لم تعد "ال" التعريف ضرورية لإزاحة اللبس عن هوية "حرب" تكفّلت بها لوحة الفنان العراقي محمد مهر الدين (1938)، وهي تحيل عوالمها الكابوسية والكارثية إلى ساحة مفتوحة لاختبار إمكانات الفن وتحدياته التعبيرية والجمالية إزاء ما هو فجائعي.
المقاربة غير المعلنة بين الحضور الصارخ على سطح اللوحة وبين المخرجات الكابوسيّة للحرب، تشي بمزاج تعبيري جديد أطلّت به أعمال "حرب قذرة" للفنان في غاليري "الأورفلي" بعمّان، خاصة تلك التي راحت تغمس كائناتها المسخيّة في معترك تراجيدي، له من العنف والفجيعة بقدر ما له من التألق والانسياب.
على التخوم المتحركة بين كمائن الريبة والتوجّس، تواصل كائنات مهر الدين في "حرب قذرة" تفرّسها في ذاتها وفي محيطها، ضمن سياقات بصريّة وتعبيريّة وشمت وجودها بالعزلة، وصبغت حضورها بالمرارة والانتكاس، ليستحيل معها القبح في عالم المسوخات والتشوّهات، إلى صور حلميّة تتناسخ على سطح اللوحة، بالفزع والعذاب.
انحياز الفنان مجدداً للنزعة التعبيرية التي خبر جذوتها على سطح لوحته منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، لم يكن انحيازاً ترفيّاً، أو خياراً مزاجيّاً، بل جاء نتيجة تراكم الخبرة المشفوعة لديه بحوار الرؤية مع المادة وتمثّلات الفكرة. وهو الحوار الذي جعل من تجربته الفنية طوال ستة عقود، مشروعاً مفتوحاً على الإمكانات القصوى لفاعلية التجريب والتجديد، بوصفها فاعلية بصرية وتعبيرية في المقام الأول.
النزعة التعبيرية المركبة التي توزعتها لوحات معرض مهر الدين المقيم متفرغاً للفن في عمّان منذ عقدين، ليست سوى فاعليّة من فاعليّات الحوار البصري حين ينغمس بالمُعاش واليومي. وهي أيضاً ليست سوى شكل من أشكال "الحوار التمثيلي" للنزعة التجريدية التي تفرّدت بها أعماله السابقة في مشهدها البصري.
ظلت لوحة مهر الدين لصيقة بمحيطها الحافل بالتوترات والتغيّرات. فيما ساهمت مرجعياته الثقافية والفكرية، وخلفيّته الماركسية، في تحقيق توازناته التعبيرية والجمالية على نحو قلّ نظيره في المشهد المعاصر للتشكيل العربي، بعيداً عن المساومة الاستهلاكية، وعن شرك الخطابة والشعار. من هنا، راحت لوحته في اشتباكها مع ظواهر الواقع المُعاش، معاينةً واستشرافاً، تؤكد انحيازها إلى خيار الشرط الإنساني، باعتباره خياراً أخلاقيّاً في الفن والحياة على السواء.
وعلى الرغم من نأي أعمال المعرض عن غواية السرد التي غالباً ما تتكئ عليها "التعبيرية الموضوعية"، إلا أن النظرة الخاطفة عليها سرعان ما تشي بما تتضمنّه من إدانة صارخة للقتل والدمار الذي خلفته "الديموقراطية" الأميركية في حربها على العراق. وفي الوقت الذي تشير فيه هذه الأعمال إلى كونها امتداد لتجربة الفنان السابقة لجهة مضمونها الفكري، تشير أيضاً إلى أن الفنان لم يتخلّ عن نزوعه القديم في الانحياز إلى قضايا محيطه ومجتمعه، خاصة منذ تأسيسه في العام 1969 مع الفنانين رافع الناصري وإسماعيل فتاح وصالح الجميعي وهاشم سمرجي، جماعة "الرؤية الجديدة" في العراق.
صيغ الاقتصاد اللوني، والحضور المواري للّون الاصطلاحي، واختزال حركة الإشارات والرموز، وتوظيف الصورة السالبة، وتطويع تقنية "الكولاج"، أضفت مجتمعةً حسّاً "دراماتيكيّا" على المناخات البصرية لأعمال المعرض، خاصة تلك التي تنفرد الكائنات المسخيّة على سطوحها التصويرية.
كائنات لا تنفرد بدور المراقب للاضمحلال وهو يتهدد وجودها، ولا تنشد حين تتفرّس مصيرها بعين ثالثة إنتاج الفزع في تغضّنات روحها، بل تجعل من رغبتها الدفينة في التحرّر والانعتاق، مساحتها المنشودة التي تحول بينها وبين الفناء.