محمد المليحي عودة اللون إلى صباه

17 مايو 2016
عمل لمحمد المليحي (بإذن من الفنان)
+ الخط -
يبدو الفنان التشكيلي المغربي محمد المليحي أكثر نضجًا وحيوية اليوم في تنقلاته المتواترة بين المغرب وعواصم العالم بهدف إقامة المعارض والمشاركة بفعاليات فنية عدة كان آخرها المعرض العالمي "آرت باريس آرت فاير" 2016 (Art Paris Art Fair) بدعوة من محترف مدينة الخزف "سيفر"، (Sèvres - Cité de la céramique).
المليحي من أبرز وجوه الحداثة الفنية المغربية، وصاحب مسيرة طويلة وغزيرة ومتنوعة في الإنتاج، وهو اليوم من خلال هذه المشاركة، يعد أول فنان عربي يُدعى إلى مدينة الخزف "سيفر"، كي يضفي لمسته الخاصة على القطع الخزفية من خلال ألوانه المتموجة نارًا في جسد الرغبة التواق إلى الحرية.

لذا ليس من قبيل المصادفة، أن يفاجئ محترف مدينة الخزف "سيفر"، المهتمين بأرقى المعارض سمعةً وشهرةً في العالم، باختياره الفنان المغربي الشهير محمد المليحي، صاحب التجربة الفنية الفريدة عربيًا بتأثّرها بتيار الـ "باوهاوس" الألماني (Bauhaus)، الأمر الذي انعكس بشكل جلي على تلويناته المتموجة، التي صارت مع مرور الزمن، خصوصًا في أعماله الأخيرة، أشبه بألسنة نار تتسامق جسدًا أنثويًا في كامل عنفوانه، فتبدو في أجزاء منه، فتنة تعصف بالرائي، وتشده صوب أقاصي الرغبة.

يجنح المليحي إلى تصعيد درامي للون والشكل على حدّ سواء، تصعيد يبدو أدنى إلى حالة من التحولات والأطوار، وما تستثيره في الذاكرة من شبق وفحولة. وهو لا يكتفي بالحوار الدرامي بين اللون والشكل بل يتجاوزه لابتكار أزياء من أمواج ألهبت الخزفيات فأحالتها الألوان إلى أعمال فنية ذات نفحة حداثية في تشبثهّا بهوية الانتماء إلى إرث وتقاليد فن الخزف في "Sèvres" المدينة التي أمر بتأسيسها الملك لويس الخامس عشر عام 1740.

يحلو للمليحي ركوب هذا النوع من المغامرات التي سبق أن دشنها عام 1968، منجزًا عملًا نحتيًا في قلب مدينة مكسيكو بمناسبة الألعاب الأولمبية، إذ يعود وهو ابن الثمانين ربيعًا، لتكرار التفاعل الإبداعي مع الآخر، من خلال العمل على أرقى وأعرق خزف في العصر الحديث في محترف "سيفر" Sèvres، الذي لم يتوقف منذ ثلاثة قرون عن تشجيع الفنانين على اختلاف مشاربهم، لارتياد عالم الابتكار والتصميم الخزفي.

محمد المليحي - ملحق الثقافة 

يحط المليحي الرحال في "سيفر" المدينة، وهو متشبع بذاكرة غنية وممتلئة بموروث خزفي تعاقب على إغنائه اليونان والرومان، الفينيقيون والبيزنطيون، الأمازيغ والموريسكيون. ذاكرة متوسطية ضاربة في القدم والعراقة، تناقلت مهارتها أنامل الصنّاع المغاربة أبًا عن جد، فابتكروا خزفيّات ما زالت إلى اليوم شاهدة على التميز والفرادة الإبداعية للخزف المغربي في شتى مناطق المغرب من الريف إلى الصحراء ومن فاس إلى آسفي.

ويتذكر طلاب المليحي، في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بالدار البيضاء، كم كان طليعيًا ورائدًا في بداية ستينيات القرن المنصرم، إذ درّسهم الخزف وزخرفاته ونقوشات الحلي ورموز السجاد التقليدي وحثهم على إتقان رسمها.

ورغم أن دعوة محترف "سيفر" Sèvres، ليست أمرًا طارئًا ولا جديدًا بالنسبة للمسار الفني والجمالي للمليحي، إلا أنه، أي الفنان، لم يتخلَ عن بصمته الخاصة أو لحظة الدهشة الأولى، التي يحس به المشاهد هو يرى أعماله، ومن خلال تلك اللحظة، يبدو المليحي وكأنه يعيد الزمن إلى الصفر، لمعانقة لحظة الانبهار الأولى كما الطفل في اكتشافه الدؤوب لمحيطه، وهو ما أدّى لابتداع لغة ألوان طازجة، حية، تصعب قراءتها من زاوية واحدة. فهي أشكال تلوينية تقوم على حامل متعدد الزوايا والأبعاد في تناغم مع الموروث الخزفي لـ سيرف، الذي نفخ فيه الفنان حياة جديدة مانحًا إياه فسحة العودة بلونه إلى صباه، إلى الشغب الطفولي حيث اللهو بالمادة بات سيد تقنيته وملهمها الأول والأبدي.

تندرج هذه التجربة في تقليد قديم سنّته مدينة الخزف "سيفر" لدعوة كبار الفنانين المرموقين لتخليد أعمالهم الفنية على خزفيات "سيفر". وهي دعوة تعكس رغبة المتحف الوطني للخزف في "سيفر" للانفتاح الثقافي ونقاط التقاءه. كما تعيد تأكيد أن جاذبية هذه الصناعة الفنية العريقة، إنما تستمد تفردها من ثراء رصيد ألف لون ولون، الأمر الذي ما فتئ يغتني بخصب خيال الفنانين المدعوين على مر العصور، مثل بوشير، ديبليسيس، فالكوني في القرن الثامن عشر، كاريي ـ بلويوز، رودان في القرن التاسع عشر، مرورا بروهلمان في 1930، دوكور، مايودون، كالدير، بولياكوف في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، ثم في القريب جدا: بيار زليشانسكي، زاو وو كي، جان لوك فيلموت، بوريك سيبيك، لويز بورجوا، ومحمد المليحي الذي أغنى مدونة خزف "سيفر" بقطع و تزيينات وزخرفات تستمد روحها من موروث متوسطي ضارب في الحداثة.

ونظرًا إلى فرادة لقاء التقاليد العريقة للخزف في "سيفر" مع أكثر الفنانين موهبًة وتميزًا، فقد اقتنيت القطع الناجمة من هذا اللقاء في أكبر متاحف العالم؛ متحف اللوفر في باريس ومتحف متروبوليتان في نيويورك ومتحف فكتوريا وألبرت في لندن ومتحف الإرميتاج في سان بطرسبرغ على سبيل المثال لا الحصر.
المساهمون