محطة الحجاز: الأسد يقلعُ إحدى عيون دمشق

09 يونيو 2020
يقع المبنى في حيّ القنوات (لؤي بشارة/ فرانس برس)
+ الخط -
يا ترى لماذا؟ سيقولها كل من رأى محطة الحجاز وسط دمشق يوماً، كعلامة فارقة لعاصمة الأمويين بين حقبتين. لماذا يطرح نظام بشار الأسد، هذا المبنى الخاص بكل معاني الخصوصية، تاريخية كانت أو جمالية، للاستثمار؟ ألم يبقَ في دمشق وما حولها، أراضٍ فارغة أو مبانٍ قديمة آيلة إلى السقوط، أو المباني التي دمرتها آلة حرب الأسد على الثورة؟ قبل محاولات الإجابة، سنأتي سريعاً على هذا الصرح المربوط بذاكرة كل من زار دمشق، وليس أهلها فقط.
سنعرّج أولاً على الاسم الذي اقترحه نظام الأسد للمشروع، وذلك خلال كشف نيته عن طرحه المحطة للاستثمار لـ45 سنة، أي مثلما طرح بقية معالم سورية في الساحل للمحتلين، ليفي بعض الديون، ويضمن أطول فترة بقاء على كرسي أبيه. "نيرفانا"، هذا هو الاسم الذي تداولته وسائل إعلام الأسد، بديلاً من منطقة الحجاز. و"نيرفانا" وفق البحث، هي كلمة بوذية الأصل، تعني في ما تعني، الانعتاق أو الانطفاء الكامل والوصول إلى التأمل العميق. وكأن الأسد يريد القول: "سأنقطع عن مرحلة وأبدأ بشحن روح دمشق على طريقتي". وأما البناء المستهدف، فهي محطة الحجاز، مركز انطلاق الخط الحديدي الحجازي التاريخي الذي كان يصل بين بلاد الشام والمدينة المنورة انطلاقاً من دمشق، والذي توقف العمل به منذ عام 1917، بعد التدمير الذي طاوله خلال الحرب العالمية الأولى.
ويجمع هذا المبنى الواقع في حيّ القنوات، بطرازه المعماري، بين الإسلامي العثماني والأوروبي الأندلسي. فمصممه الإسباني، فرناندو دا أراندا، آثر المؤاخاة منذ بنائه سنة 1907. وترك مساحة "الرحب والسعة" للواجهة الشمالية التي تتوسَّطها ثلاثة أبواب ضخمة، تُعتبَر المدخل الرئيسي للمحطة. وبعد عام من البناء، وصل أول قطار إلى محطة المدينة المنورة قادماً من دمشق في 23 أغسطس/ آب 1908، بعد أن قطع المسافة خلال خمسة أيام فقط، وذلك قبل افتتاح المحطة الرسمي، الذي تأخر أسبوعاً ليتزامن مع الذكرى الثانية والثلاثين لجلوس السلطان عبد الحميد الثاني على عرش الدولة العثمانية، وكان ذلك في 1 سبتمبر/ أيلول 1908.
وتحكي كتب التاريخ أن فكرة المحطة وُلِدَت لأول مرة عام 1864، وذلك للأهمية الكبيرة لمدينة دمشق، كمنطلق لحملات الحج. إذ كانت تتوافد إلى دمشق من دول آسيا الوسطى عشرات الوفود استعداداً لمحمل الحج الدمشقي الذي كان ينطلق من دمشق إلى المدينة ومكة في الجزيرة العربية. ومن هنا نشأت فكرة إنشاء الخط الحديدي بدلاً من طريق القوافل القديم، لأنَّ رحلة الحج كانت تستغرق 40 يوماً للوصول إلى الأراضي المقدسة. وتأخَّر تنفيذ المشروع حتى نهاية القرن 18 في عهد والي دمشق حسين ناظم باشا، ورجل الدولة الدمشقي أحمد عزة باشا العابد، أمين سر السلطنة أيامها. وأُنجز الخط الحديدي بكلفة وصلت إلى خمسة ملايين ليرة ذهبية عثمانية. وكان الخط ينقل وفود الحجيج من دمشق، إضافة طبعاً إلى التُّجَّار والمسافرين والبضائع إلى الجزيرة العربية.
والمحطة حكاية صغيرة عن الخط الحجازي الطويل، الذي بدأ بناؤه منذ مايو/ أيار من عام 1900، ودُشِّن في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، بكلفة وصلت إلى ثلاثة ملايين ونصف مليون ليرة عثمانية. إذ خصصت الدولة العثمانية 18% من ميزانيتها لإنشاء الخط. ووجّه السلطان العثماني نداءً إلى العالم الإسلامي من أجل التبرع للمشروع، ليدشن بذلك حملة تبرعات، وبدأت الحملة بتبرُّع السلطان عبد الحميد الثاني من جيبه الخاص بمبلغ 320 ألف ليرة عثمانية، وتبرع شاه إيران بخمسين ألف ليرة عثمانية، فيما تبرع خديوي مصر بمواد عينية للبناء. وأصدرت الدولة العثمانية طوابع تُلصَق على معاملات الدولة يعود ريعها لمصلحة المشروع. كذلك فُرضت ضريبة "المسقفات" التي تتمثل بخمسة قروش عن كل شخص ذكر، ودعت المسلمين كافة إلى المشاركة في تلك الحملة، سواء كانوا ممن يعيشون في الأراضي العثمانية أو خارجها. ومن بعد السلطان تبرع الباشاوات العثمانيون وموظفو الدولة والتجار والبائعون والجنود وبقية الشعب، ولقي نداء السلطان عبد الحميد استجابة من المسلمين من مختلف أنحاء العالم، وقد حرصت الدولة العثمانية على تكريم المتبرعين من خلال منحهم أوسمة ونياشين مصنوعة من الذهب والفضة تخليداً لذكرى الخط الحجازي. عود على بدء ومحاولة الإجابة عن سؤال، لماذا منح الأسد هذه "التحفة التاريخية" للاستثمار اليوم؟ أغلب الظن، ليرسل إلى من يهمه الأمر، أن "سورية بخير"، وهي تعرض أماكن استثمارية مغرية على الرساميل، لتكون منطلقاً لإعادة الإعمار.
المساهمون