أصدرت دائرة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تعليمات للدوائر التشريعية في مجلس الوزراء ووزارة العدل ووزارة الاستثمار، وعدد من الشخصيات القانونية المتعاونة مع النظام من دون مناصب رسمية، للعمل على إيجاد حل تشريعي يضمن إمكانية البدء في طرح شركات القوات المسلحة في البورصة، ضمن برنامج الطروحات الحكومية المقتصرة حتى الآن على شركات قطاع الأعمال العام وبعض الشركات المملوكة للهيئات الاقتصادية، وفي المقابل إيجاد طريقة تضمن دخول شركات الجيش والمخابرات والشرطة، وغيرها من الأجهزة السيادية والأمنية، في معترك السوق الحر مع المستثمرين، للمنافسة على أسهم الشركات الحكومية التي سيتم طرحها في البورصة تباعاً.
جاء ذلك على خلفية إدلاء السيسي بتصريح، في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، خلال افتتاحه مشروعاً جديداً، لوّح فيه إلى إمكانية البدء في طرح شركات القوات المسلحة في البورصة، على الرغم من أن شركات الجيش ليست مؤسسة كشركات مساهمة من الأصل وغير خاضعة لأي نوع من الرقابة الفعلية. وقالت مصادر حكومية واسعة الاطلاع، إن عدداً من المسؤولين في وزارة الدفاع شعروا بالقلق من تصريحات السيسي، التي أدلى بها بعد تلقّيه هو ووزراؤه انتقادات وتساؤلات عديدة من عواصم غربية، أبرزها واشنطن وبرلين، فضلاً عن إبلاغه بتململ أبوظبي، بسبب الطريقة التي يدير بها الاقتصاد المحلي لضمان استحواذ الجيش على الحصة الأكبر من السوق. ونتيجة هذا القلق، عقد السيسي اجتماعاً لم يعلن عنه، الأسبوع الماضي، مع وزير الدفاع محمد زكي وعدد من مسؤولي هيئات الجيش الاقتصادية والأمين العام لوزارة الدفاع، وحضره رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، وطمأن خلاله السيسي ممثلي الجيش على حرصه الشديد على استقلال الجيش باقتصاده، وعدم المساس به، وأن أي تعديل تشريعي قد يُتخذ بهدف طرح شركاته في البورصة سيطبق برقابة صارمة من الجيش نفسه، من دون مزاحمة من أي وزارة مدنية.
وأضافت المصادر أنه بناءً على هذه التطمينات، فإن هناك شعوراً عاماً داخل أروقة الدوائر التشريعية بأن السلطة غير جادة في تنفيذ طرح شركات الجيش في البورصة بالمعنى الحرفي للكلمة، حتى إذا أدخلت تعديلات تشريعية تضمن ذلك، لكن مجرد إصدار تلك التعديلات، مع اتخاذ إجراءات أخرى، سيساعد من وجهة نظر السلطة على طمأنة المستثمرين الأجانب وحكوماتهم وتحفيزهم على دخول السوق المصرية. ومن هذه الإجراءات التطمينية للخارج، رجحت المصادر إصدار قرارات من وزير الدفاع بإعادة تأسيس مجموعة مختارة من شركات الجيش القائمة منذ سنوات طويلة وفق قانون الشركات المساهمة، والتوسع في تطبيق القرار الجمهوري 446 لسنة 2015، بتعديل بعض أحكام قرار رئيس الجمهورية 531 لسنة 1981 بشأن قواعد التصرف في الأراضي والعقارات التي تخليها القوات المسلحة. ويتيح القرار لجهاز وزارة الدفاع المختص ببيع الأراضي والعقارات المملوكة للدولة التي تخليها القوات المسلحة، بأن يؤسس شركات بمفرده، أو بالمشاركة مع رأس المال الوطني والأجنبي، وممارسة خدمات وأنشطة تنمية موارده، وأن يسمح لهذا الجهاز بالقيام بجميع الخدمات والأنشطة التي من شأنها تنمية موارده، وله في سبيل ذلك تأسيس الشركات بكافة صورها، سواء بمفرده أو بالمشاركة مع رأس المال الوطني أو الأجنبي.
أما عن الإجراءات التطمينية للجيش نفسه، فذكرت المصادر أن دائرة السيسي أعادت تكليف الحكومة بوضع تصور يمكّن الجيش من إنشاء شركات متخصصة في المجالات التي يريد المشاركة فيها مع قطاع الأعمال العام، ثم طرح الشركات التابعة للحكومة للبيع الجزئي أو الكلي لصالح الشركات المتخصصة التابعة للجيش، منفردة، أو بالمشاركة مع مستثمرين آخرين. وقبل إدلاء السيسي بتصريحاته بأسبوعين، انفردت "العربي الجديد" بنشر معلومة عن سابقة صدور تعليمات من دائرة الرئيس للحكومة بوضع ذلك التصور، بهدف تشارك الجيش والجهات السيادية مع وزارة قطاع الأعمال العام لتملّك وإدارة عدد من الشركات التابعة للشركات القابضة، الناشطة في مجالات، ليس للجيش أو المخابرات أو الشرطة شركات تعمل فيها، خصوصاً صناعة الغزل والنسيج، والسياحة، والأدوية، والنقل واللوجيستيات، بشرط أن تكون هذه الشركات غير خاسرة، لكنها متعثرة في تحقيق أرباح تتناسب مع مواردها وأملاكها الحقيقية. كما سيتم استثناء الشركات القائمة في المجالات التي ينشط فيها جهاز مشاريع الخدمة الوطنية التابع لوزير الدفاع أو المخابرات والشرطة.
لكن عجز الدوائر التشريعية في الحكومة عن وضع هذا التصور قبل منتصف العام الحالي، دفع السيسي إلى إصدار قرار، في 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بتشكيل لجنة لتعديل قانون قطاع الأعمال العام، لإعادة هيكلة القطاع والتصدي إعلامياً لمعارضي الخطة الحكومية للتصرف في ذلك القطاع، برئاسة شريف إسماعيل، مساعد السيسي للمشاريع القومية والاستراتيجية ورئيس الوزراء الأسبق، وعضوية وزير قطاع الأعمال وممثلين لوزارتي المالية والتخطيط، مقابل حضور مكثف للأجهزة السيادية، بممثلين عن المخابرات العامة والرقابة الإدارية والأمن الوطني. وأشارت المصادر إلى أن العائق الرئيس أمام الدوائر التشريعية الحكومية لإجراء التعديلات المطلوبة هو عدم استجابة الجيش لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات على الإطلاق، وأنه من غير المتصور بالتبعية خضوعه لرقابة هيئة الرقابة المالية أو هيئة سوق المال، حتى ولو نظرياً.
وأكدت المصادر أن فكرة الشفافية المفترضة في الرقابة تتناقض من الأساس مع مزايا تشريعية قائمة يتمتع بها الجيش، خصوصاً في قانون التعاقدات الحكومية رقم 182 لسنة 2018 الذي يسمح لكل أجهزة الجيش والإنتاج الحربي والداخلية، بإبرام عقود المقاولات والخدمات والاستيراد بطريق المناقصة المحدودة أو المناقصة على مرحلتين، أو الممارسة المحدودة، أو الاتفاق المباشر من دون اتّباع المناقصات أو المزايدات العامة، بدعوى "حماية الأمن القومي"، ما يضمن لتلك الجهات سرية خطط البيع والشراء وعدم نشر أي معلومات عنها على بوابة الخدمات الحكومية الإلكترونية، وبالتالي استحالة خضوعها للرقابة المحاسبية.
وعلى الرغم من أن الجيش يدخل قانوناً تحت طائلة رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، فإنه لم يخضع قط لذلك. وعندما أراد رئيس الجهاز السابق المستشار هشام جنينة مباشرة رقابته عليه في عهد تولي السيسي الوزارة، لم يتمكن من ذلك، وكان هذا مثار تصريحات إعلامية عديدة لجنينة، أبرزها ما أدلى به في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 من أنه "عاجز حتى الآن عن مراقبة المنشآت الاقتصادية للقوات المسلحة التي لا علاقة لها بالأمن القومي والتي لا تتطلب السرية الشديدة"، متسائلاً "ما علاقة قاعات أفراح القوات المسلحة بالأمن القومي؟"، وذلك في برنامج "العاشرة مساء" المذاع آنذاك على قناة "دريم" الخاصة. وبعد عزل الرئيس الراحل محمد مرسي، في يوليو/تموز 2013، وعلى الرغم مما صرح به جنينة نفسه عن ترحيب السيسي بالرقابة، إلا أنه مُنع مراراً، وحتى من الرقابة على صندوق "تحيا مصر" التابع للجيش، والذي أنشئ بالقانون 139 لسنة 2014، الذي نص رسمياً على أن "يتولى الجهاز المركزي للمحاسبات مراجعة ومراقبة حسابات الصندوق وإعداد تقرير ربع سنوي يعرض على رئيس الجمهورية"، إذ توجه فريق من موظفي الجهاز إلى هيئة الجيش المالية، في 18 مايو/أيار 2015، لفحص أعمال الصندوق، لكنهم لم يتمكنوا من الاطلاع على أي مستند. وانتهت هذه الأزمة الدالة على واقع الحال بإصدار قانون جديد رقمه 84 لسنة 2015 نصّ على تمتع صندوق "تحيا مصر" بالاستقلال المالي والإداري، وإسناد سلطة تحديد أساليب الإشراف عليه وإدارته وتصريف شؤونه إلى رئيس الجمهورية، من دون التقيّد بالنظم الحكومية المنصوص عليها في أي قانون آخر، وإسناد الرقابة على أعمال الصندوق المحاسبية إلى مكتب مراجعة مسجل لدى البنك المركزي تختاره إدارة الصندوق. وبذلك تم إبعاد الجهاز المركزي تماماً عن مباشرة الدور الرقابي على الصندوق. وبحسب مصادر محاسبية في الجهاز المركزي للمحاسبات، فإن رئيس الجهاز الحالي المستشار هشام بدوي لم يقدم على الإطلاق على مراجعة أعمال الجيش وأنشطته، بما في ذلك الاقتصادية العامة الخارجة عن السرية العسكرية.