محاولات متكررة لضرب التجربة الديمقراطية التونسية: أدوات وأهداف مكشوفة

23 مايو 2020
يتمسك التونسيون بصندوق الاقتراع لمحاسبة مسؤوليهم (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
بعدما فشلت كل المحاولات السابقة لضرب التجربة الديمقراطية في تونس، تتكرر اليوم هذه المساعي بالأدوات نفسها وبسيناريو مشابه، ومن المعسكر نفسه المعادي للديمقراطية ونتائج الانتخابات وحرية التعبير، وهو المعسكر الإماراتي السعودي المصري، الذي يحاول استغلال وجود أزمة سياسية في البلاد، خصوصاً بعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي وما تلا ذلك من تراجع حزب "نداء تونس" وسقوط التوافق الذي كان قائماً مع حركة "النهضة" التي لم تجد شريكاً حقيقياً تتقاسم معه الحكم على أسس واضحة.

وإذ نجحت التجربة التونسية بالصمود أمام كل الأزمات حتى اليوم، وحقق التونسيون نجاحات مهمة في مواجهة تفشي كورونا، إلا أن المحاولات القائمة الآن تحمل خطراً على هذه التجربة. وعلى الرغم من ذلك، لا يبدو التونسيون في الشوارع والمحلات التي أعادت فتح أبوابها بعدما أجبرتها الجائحة على إغلاقها، مكترثين كثيرا بما تنقله شاشات ومواقع عربية مدعومة إماراتياً ومصرياً وسعودياً، حول هذا الموضوع، بل ينهمكون في الإعداد لعيد الفطر وإعادة فتح محلاتهم المغلقة منذ أشهر بسبب كورونا، بالإضافة إلى أنهم أصبحوا مطمئنين إلى مؤسساتهم التي جعلتها الثورة لا تعمل إلا في خدمتهم بعقيدة جديدة مهما كان النظام والحاكم، وأصبحت أكثر جاهزية لمواجهة المخاطر. وبعدما صمدت البلاد أمام كل الأزمات السابقة عندما كانت أكثر هشاشة ومؤسساتها أكثر ضعفاً، ولم تكن تملك أدوات المقاومة ومراقبة حدودها، ولا كانت تتوقع ما تجهزه غرف عمليات خارجية، فإنها اليوم عرفت من يدعمها ومن يقف ضدها.

إلا أن ما تضمره هذه الجهات لا ينفي وجود أزمة سياسية حقيقية في البلاد، لعل من أسبابها محاولة التموقع لمرحلة ما بعد كورونا، ولكن هذه الجهات قد تتسلل منها وتستغل توتر الأوضاع، على الرغم من أن محاولتها لإسقاط التجربة يُستبعد أن تنجح مهما بلغت مقادير الأموال المرصودة والحملات الإعلامية، لأن التونسيين اعتادوا على الحرية والتجربة الديمقراطية ولن يقبلوا التنازل عنها، على الرغم من استمرار الأزمات، فالمناطق المحرومة لا تزال محرومة والبطالة لا تزال على النسب نفسها والعمال منزعجون من أوضاع السوق وارتفاع الأسعار، ولكنهم يقفون طوابير أمام صناديق الاقتراع يختارون حكّامهم ويحاسبون مسؤوليهم مهما علا شأنهم.

وتذكّر الأحداث اليوم بأن السيناريوهات القائمة شبيهة جداً بما حدث في الماضي، وتشير إليها شخصيات محايدة من خارج اصطفاف الأطراف المتصارعة اليوم. وفي هذا السياق، اعتبر عالم الإجتماع ومدير فرع تونس للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مهدي مبروك، أن جزءاً من العنف السياسي في تونس يعود إلى غياب الثقة بين السياسيين، وبين السياسيين والشعب، مشيراً إلى أن الطبقة السياسية لم تتدرّب على التعايش السلمي وانتقلت بسرعة من حالة الاستبداد إلى حالة التحالفات القائمة على المصالح لا القيم.

وأكد مبروك في حديث إذاعي أن "الحل في مواجهة العنف السياسي يكمن في المجال التشريعي، إضافة إلى استكمال البناء المؤسساتي على غرار المحكمة الدستورية وأخلقة العمل السياسي ليقوم على القيم والمبادئ". وتحدث عن "غياب شخصيات سياسية تلعب دور تلطيف الأجواء السياسية في تونس، سواء بالنسبة للرئيس قيس سعيّد أو رئيس البرلمان راشد الغنوشي، باستثناء رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ الذي يحاول ذلك، وكان الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي لعب هذا الدور نوعاً ما".

وأشار مبروك بهذا التصريح إلى حلقة مهمة في الحياة السياسية التونسية لم تسمح الانتخابات وما تلاها من أحداث بالانتباه إليها، وهي التحالفات السياسية الموضوعية والفراغ الذي خلفه سقوط التوافق ثم وفاة السبسي، ومن بعدها انحلال "نداء تونس" واختفاء المنظّرين، من غير المدرسة الإسلامية، للتوافق السياسي والفكري الممكن. وقد جنّب ذلك التوافق تونس منذ 2013 ويلات الانقسام وحقق نوعاً من الاستقرار الداخلي والتقارب في العلاقات الدولية ووجهات النظر بالنسبة لملفات حساسة من بينها الجزائر وليبيا والأزمة الخليجية وقتها وغيرها.


وتعاني الساحة التونسية اليوم من هذا الفراغ، ولم تجد حركة "النهضة" شريكاً حقيقياً تتقاسم معه الحكم على أسس واضحة، او لعلها فشلت في ذلك بسبب أخطاء متتالية في تقدير الموقف وتحديد بوصلة الشراكات الممكنة والقابلة للاستمرار في محيط صعب ومتوتر للغاية.
وكان المستشار السابق للغنوشي، وزير التنمية المحلية الحالي، لطفي زيتون، وهو من أشد المدافعين عن فكرة التوافق، اعتبر في نص نشره منذ سنتين، خلال أزمة مماثلة، أن "النخب المتسرعة والمتوترة من المعسكرين هي التي دفعت إلى هذا الوضع الذي أنتج وضعاً حكومياً غير مسبوق في ضعفه وضعف قاعدته الشعبية والحزبية وشللاً برلمانياً يهدد بانفتاح تجربة كانت رائدة واستثناء في العالم على المجهول".

وقال زيتون إن "الجمهورية الثانية استمرت بسبب التقاء رجلين اصطلح على تسميتهما بالشيخين، الرئيس الباجي قائد السبسي والشيخ راشد الغنوشي... وما يحدث الآن دليل على أن النخب السياسية من مختلف الأطياف لم تنجح في تحويل التقاء الرجلين إلى ثقافة سياسية، بين نخب متنازعة منذ أن تأسست الدولة الوطنية... هذا الالتقاء الذي يبشر بالمصالحة التاريخية بين جيلي التأسيس للجمهورية الأولى والثانية... بين الدستوريين الوطنيين والإسلاميين الوطنيين والقوى الاجتماعية الوطنية (اليسار) رافعين شعار المصالحة الوطنية الشاملة، بين الماضي والحاضر والمرجعيات والتيارات... المصالحة بين الجهات والأجيال، والدولة ومواطنيها".

ومع تكرار الأزمات بالتوتر القائم وللأسباب نفسها تقريباً، نبّه عدنان منصر، مدير ديوان الرئيس السابق منصف المرزوقي، الذي ترك العمل الحزبي وتفرغ للبحث في مركزه للدراسات حول المغرب العربي، مما وصفه بـ"الإسفاف المتبادل"، مؤكداً في نص على صفحته الرسمية، أن "المسؤولية السياسية للأحزاب هي هنا بالضبط، رفع درجة العدوانية وإثارة الأنصار المتعصبين، فإذا وقعت كارثة لا قدر الله، فإن المسؤولية عنها تكون مباشرة… حيث لا يمكن التحكّم أبداً في تطوّر منسوب الكراهية، إلى أن يأتي أحدهم فيرتكب جريمة تعصف بكل شيء".
وذكّر منصر بظروف اغتيال الزعيمين اليساريين، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وهي "ظروف تحمل بعض أوجه الشبه. جاء الوقت اليوم للاعتراف من دون مواربة بالمسؤولية السياسية والأخلاقية للترويكا (وقد كنت فيها) بتوفير الظروف النفسية والسياسية للاغتيالين، وقد كان اغتيالاً للترويكا نفسها، ولعل أحداً في الترويكا لم يكن يتوقع أن يمر أحدهم لاغتيال الرجلين، ولكن كل ظروف التعبئة وتصعيد الحماس كانت متوفرة، فكان الاغتيالان تتويجاً لجو كامل من التوتر السياسي والحزبي".

ويجد هذا التحذير من منصر صداه، وأشار إليه أيضاً الأمين العام لـ"الحزب الجمهوري"، عصام الشابي، الذي اعتبر أن رئيسة الحزب "الدستوري الحر" عبير موسي ليست مظلومة وأن ثقافتها معادية للديمقراطية، فهي في نظام ديمقراطي وفّر لها كل حقوقها والإمكانيات للدفاع عن النفس. وأكد الشابي خلال مداخلة تلفزيونية الخميس، أن موسي وكتلتها "رأس حربة ترذيل الديمقراطية والعمل المؤسسات وتعطيل العمل المؤسساتي". وأشار إلى وجود "قوى إقليمية وغرفة عمليات تعمل للوصول إلى ترذيل العمل الديمقراطي وإفشال كل مسارات الثورات العربية".