تختبر الدولة الفرنسية، مع رئيسها السابق نيكولا ساركوزي، الكثير من الأشياء للمرة الأولى في تاريخها.
فهذه المرة الأولى التي يُعتقل فيها رئيس سابق للجمهورية الفرنسية، ويتم إيقافه، وتُوجّه له تهمتان جديتان: الفساد واستغلال النفوذ. وتدور تهم "الفساد واستغلال النفوذ" على الدور الذي قام به ساركوزي من أجل معرفة القرارات الهامة التي ستصدر في قضية "بيتانكور"، من خلال تواطئه مع محاميه تيري هرزوغ.
كما عرفت فرنسا مع ساركوزي، رئيساً يُجاهِر بصداقاته مع رجال الأعمال وبحبه للثروة، إلى درجة انقلب فيها هذا العشق الدخيل على الفرنسيين، إلى عائق كبير يهدد بتحطيم مستقبل الرجل السياسي نهائياً.
ويكتشف الفرنسيون، مع هذه الأخبار القضائية المثيرة، "استقلالية قضائهم"، ويظهر أيضاً معها، انفضاض معظم أصدقاء ساركوزي من حوله، بعد جنوح مركبه ليصبح الرجل مهدداً بالسجن ثماني سنوات.
وتندرج هذه القضية في سلسلة من قضايا الرجل مع العدالة، فقد استطاع حتى اليوم الإفلات من قضيتين سابقتين، الأمر الذي كان يمنح أنصاره، أو ما تبقى منهم في هذه المحنة، الاعتقاد بقدرته على العودة قوياً وسالماً بعد كل اختبار.
ورغم أن توجيه التهم بالفساد ومحاكمة رئيس فرنسي، ليس بالأمر الجديد في الجمهورية الفرنسية الخامسة، اذ ان الأمر حدث مع الرئيس السابق جاك شيراك، وأُدين في نهاية الأمر بغرامات وبالسجن مع وقف التنفيذ، إلا أنها المرة الأولى التي يتعرض فيها رئيس جمهورية فرنسي سابق للاعتقال الاحتياطي ثم الإيقاف.
وتُظهر الوقائع أن اعتقال ساركوزي وإدانته، يصبّان في مصلحة الكثيرين، من دون الاستعجال بالحديث عن أي مؤامرة. فالتهم التي يُحاكَم عليها الرئيس السابق واضحة، والوقائع موجودة. وما أثار ارتياب المحققين أكثر، أن مكالمات ساركوزي الهاتفية في المرحلة الأخيرة كانت قصيرة جداً، وهو ما سيكشف امتلاك ساركوزي لهاتف آخر اشتراه باسم مستعار هو بُول بيسموت، ويكشف أيضاً أن الرئيس السابق بدأ يشك في أنه موضع تنّصت.
ولا تصب مواقف ساركوزي، في ما يخص عداءه الشديد لجسم القضاء حين كان رئيساً، في مصلحته، كما لا تمنح مصداقية لتصريحاته عن العناد القضائي ضده، وهو ما بدا واضحاً مع فتور مناصريه، إزاء محاكمته، عدا مجموعة صغيرة ترى شبح "المؤامرة" في كل مكان.
وكان السؤال الذي يراود الساسة الفرنسيين على اختلاف مشاربهم، هو متى سيسقط نيكولا ساركوزي، وينتهي سياسياً؟ هذا السؤال يُطرح ليس فقط من قبل الخصوم اليساريين وحدهم، بل إن قياديي حزبه يتمنون سقوطه وانصرافه عن السياسة. وقد قالها وزير الخارجية السابق، آلان جوبيه بصراحة، حين زعم أن مشاكل ساركوزي القضائية، قد تكون عائقاً أمام طموحه بالعودة الى المعترك السياسي.
ولم يكن ساركوزي يتصور أن الأمر، في هذه القضية، سيصل إلى درجة وضعه رهن الاعتقال ومتابعته بقضيتين ثقيلتين، إلا أنه كان يجاهر بالقول بأن مَكمن الخطر الذي سيتهدد مستقبله السياسي، سيأتي من فضيحة "بيغماليون"، أي تلك المتعلقة بالأموال التي صُرفت على الحملة الانتخابية وتداعياتها على الحزب وأمواله، والتي لا تزال في بداياتها الواعدة.
وتُشكّل قضية ساركوزي، زلزالاً قضائياً وسياسياً في فرنسا. وإذا كان من السابق لأوانه استباق الأحداث، وخصوصاً أن ثمة أشياء كثيرة غير مسبوقة في القضاء الفرنسي، ليس فقط لأن المعتقل رئيسٌ سابق للجمهورية، مع كل ما يثيره الأمر، خارجياً ودولياً من استغراب وذهول، بل وأيضاً لأن محامي المتهم، هو أيضاً معتقلٌ ومُتابَعٌ، ولأن القضايا التي يُتابَع فيها ساركوزي كثيرة، ويُخشى أن تكون مترابطة، فنَشهد "ماراثوناً حقيقياً" من المحاكمات.
ويبدو أن اقتراب ساركوزي الشديد من رجال الأعمال، وافتتانه بالحملات الانتخابية الأميركية التي تُصرف فيها أموال هائلة، ومحاولة تقليدها وزرعها في فرنسا المحافظة "الكاثوليكية"، هما أصل البلاء بالنسبة له. فكل متاعبه مع القضاء، تتعلق بالمال، الذي يعشقه ساركوزي عشقاً جمّاً.