وأودعت سلطات القضاء العسكري بمحكمة البليدة، 60 كيلومتراً جنوب العاصمة الجزائرية، خمسة من كبار جنرالات الجيش الجزائري الذين تمّت إقالتهم قبل أسابيع، السجن على ذمة التحقيق، بعد مثولهم الأحد الماضي أمام قاضي التحقيق العسكري، للتحري في تهم وُجهت إليهم تتعلّق بالثراء غير المشروع والفساد المالي والعقاري واستغلال النفوذ. وهؤلاء الجنرالات هم القائد السابق للمنطقة العسكرية الرابعة، اللواء عبد الرزاق الشريف، وقائد قسم المصالح المالية لوزارة الدفاع، اللواء بوجمعة بودواور، والقائد السابق للمنطقة العسكرية الثانية، اللواء سعيد باي، وقائد المنطقة العسكرية الأولى، حبيب شنتوف، وكذلك القائد السابق لجهاز الدرك الوطني (يتبع لوزارة الدفاع) مناد نوبة.
وبالنظر إلى طبيعة النظام السياسي في الجزائر، وسياساته التي ترتكز على اللاعقاب والتساهل مع الموالين على عكس المعارضين مهما كانت مستوياتهم، مدنيين أو عسكريين، من الذين عملوا لفترة في دائرته ويملكون جزءاً مهماً من أسراره، خصوصاً في فترة حكم بوتفليقة، فإنّ كثراً من متابعي ومحللي التطورات الأخيرة يستبعدون أن تكون الملاحقة القضائية والسجن للجنرالات الخمسة، ضمن سياق محاربة الفساد واستفاقة وعي من السلطة لردع الفاسدين. ويرى هؤلاء أنّ القضية مرتبطة بشكل مباشر بالانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة في ربيع العام 2019 المقبل. وفي هذا الإطار، يقول القانوني والناشط السياسي في تكتل "مواطنة" المعارض، عبد الغني بادي، في حديث لـ"العربي الجديد": "لا أعتقد أنّ هناك استفاقة وعي بقدر ما أفترض أنّ المسألة مرتبطة بالتحوّلات التي قد تنتجها رئاسيات 2019، التي تعتبر حلقة مهمة جداً في استمرار الجناح المقرّب من الرئاسة"، مضيفاً: "لا يمكن فصل قضية الجنرالات عن صراع السلطة، طبعاً في ظلّ تحكّم هذا الجناح (المقرّب من الرئاسة) في الأجهزة الحساسة، ومن بينها القضاء والإدارة، لتوظيفهما بما يخدم مصالحه، وهذا الجناح يريد رئاسيات بجو هادئ جداً من دون ضجيج".
لكنّ هكذا تفسيرات للقضية، تفرض طرح سؤال عمّا إذا كان الجنرالات الخمسة وغيرهم من المقالين من مناصبهم، قد أبدوا اعتراضات غير معلنة لترشّح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، بسبب وضعه الصحي الذي لا يسمح له بذلك، أو عمّا إذا كانوا اعترضوا على ترتيبات تقوم بها الرئاسة في اتجاه أو في آخر، بشأن رئاسيات 2019، أو حتى طالبوا بأن يكونوا شركاء في أخطر قرار سياسي يتخذ في الظرف الراهن. ويجيب الناشط عبد الغني بادي على هذه التساؤلات بالقول: "نعم، اعتراضهم على ترشّح الرئيس بوتفليقة فرضية قائمة، والرئاسيات تشكّل حلقة مهمة جداً في استمرار الجماعة الحاكمة حتى لا نقول نظام الحكم، والدليل على ذلك أنّ الفساد أو الثراء الفاحش اللذين يلاحق بهما الجنرالات لا يمكن أن يكونا وليد اليوم، فلماذا إذاً يظهران كقضية وتهمة في هذه المرحلة بالذات؟".
لكنّ سرعة الملاحقة القضائية للجنرالات الخمسة، بعد أقلّ من شهر على إقالتهم، (أقال بوتفليقة في 29 يونيو/حزيران الماضي، قائد جهاز الدرك مناد نوبة، فيما أقال في 17 أغسطس/آب الماضي القادة العسكريين الأربعة الآخرين من مناصبهم)، تطرح أكثر من سؤال عن سيرورة إجراءات الملاحقة وسرعة تنفيذها، خصوصاً أنّ الأمر يتعلّق بقيادات عسكرية كانت تدير مناطق حساسة وواسعة وجهاز أمني بارز. ويفترض الكثير من المراقبين أنّ هناك مستوى حاداً من الصراع وخلفيات دفعت السلطة إلى الإسراع في الإجهاز عليهم.
وفي السياق، يعتقد المحلّل السياسي الذي يدير النسخة العربية من موقع صحيفة "ليبرتي"، محمد إيوانوغان، أنّه "يمكن تصوّر حدة الصراع الحاصل ومستوياته بالنظر إلى طبيعة أطرافه". ويوضح في حديث مع "العربي الجديد" أنها "معركة كبيرة طبعاً، لأنه لا يمكن أن نتصوّر أنّ هؤلاء الجنرالات استسلموا بسهولة للأمر الواقع، وهم كانوا حتى وقت قريب في أعلى هرم القيادة العسكرية". ويشرح إيوانوغان أنّ "الجنرال عبد الرزاق شريف كان يقود ويتحكّم في منطقة عسكرية مساحتها أكبر من مساحة عدد من الدول مجتمعة"، مضيفاً أنّ هذه القضية "كسابقة أولى في تاريخ الجزائر، لا يمكن مقارنتها بأي قضايا سابقة، بما فيها قضية حبس الجنرال مصطفى بلوصيف بداية التسعينيات بتهم فساد، لأن تلك القضية كانت فردية، والرئيس الشاذلي بن جديد الذي كان يدير دفة الحكم حينها، ضحّى بالجنرال بلوصيف بعدما لاحظ أنّ لديه طموحات سياسية. أمّا اليوم، فالقضية تخصّ خمسة جنرالات دفعة واحدة. وهناك جنرالات آخرون تمّت إقالتهم من مناصبهم لا نعرف إن كان سيتم استدعاؤهم أم لا في المستقبل".
ويذهب إيوانوغان بالقضية في اتجاه آخر، إذ يعتقد أنّ "لها بعداً دولياً قد تتكشّف تفاصيله لاحقاً"، بحسب قوله. ويرى أنّ المسألة "أكبر من قضية مكافحة الفساد بالنظر إلى طبيعة تأثيراتها في صورة الجزائر؛ إذ كيف يمكن للجيش الجزائري أن يقنع شركاءه الدوليين في مكافحة الإرهاب الدولي، وهو يعلن للعالم أنّ أعلى قادته متورطون في الفساد". ويقول: "القضية أعمق من الفساد برأيي، لا أستبعد أن تكون ذات أبعاد دولية، أي أنّ الجيش الجزائري يواجه ضغوطاً خارجية لتغيير إيديولوجيته ومقاربته تجاه القضايا الإقليمية، مثل القضية الليبية والمالية".
ويربط محمد إيوانوغان بين قضية حبس الجنرالات الخمسة وقضية سجن وملاحقة قائد وحدات مكافحة الإرهاب السابق في جهاز الاستخبارات (قبل تفكيكه إلى ثلاث جهات في سبتمبر/أيلول عام 2015) الجنرال آيت واعراب المعروف باسم حسان، بسبب ضغوط أميركية في قضية مرتبطة بتسليح مجموعات غامضة في الصحراء الجزائرية القريبة من شمال مالي. ويقول: "قضية الجنرال حسان كانت قضية فردية، والنظام معتاد على التضحية بشخص من أجل إنقاذ نفسه. لكن أن يتم اتهام كل القيادة العسكرية بالفساد، أقول كل القيادة لأن التهمة طاولت كل الذين تمت تنحيتهم، فهذا موضوع خطير في اعتقادي، ولا يمكن للنظام الجزائري أن يقدم عليه من باب المناورة السياسية، لو لم تكن هناك دوافع دولية أكثر من أي دوافع محلية".
وعدا تلميحات قائد أركان الجيش الجزائري، الفريق أحمد قايد صالح، بشأن أن "يتحمّل كل قائد عسكري مسؤوليته في حال تجاوز القانون"، فإنّه لم تتكشّف أي تفاصيل حتى الآن من قبل المؤسسة الرسمية بشأن قضية ملاحقة الجنرالات الخمسة في الجزائر. ووحدها الأيام القليلة المقبلة ستكشف طبيعة القضية وملابساتها، خصوصاً أنه بات من الصعوبة فصل هكذا قضايا عن ملابسات سياسية صرفة، وكذا كون التاريخ السياسي للجزائر في قضايا مماثلة، أظهر أنّ الحسابات السياسية تقف في الغالب خلف هكذا قضايا، كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نفسه ضحية لها عام 1980، بعد ملاحقته من قبل مجلس المحاسبة والتشهير به في صحيفة حكومية بشأن فساد مالي.