محاكمة القرن وحكم التاريخ

03 ديسمبر 2014

حسني مبارك في قفص المحاكمة (25 أغسطس/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

لم يصدمني حكم البراءة الصادرعلى الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، ونجليه ووزير داخليته وكبار مساعديهم، فهو مجرد تحصيل حاصل لما آلت إليه الأوضاع في أرض الكنانة، بعد أن سُرقت ثورة شعبها، بعدما سرقوا ثرواته عقوداً. الحكم لا يجب أن يصدم، أيضاً، الثوار وبسطاء الشعب ممن لازالوا يؤمنون بشعارات ثورة 25 يناير، لأنه شهادة إثبات أخرى على أن ما حصل يوم 3 يوليو لم يكن سوى انقلاب على ثورتهم. فهذا الحكم كان منصفاً من جانب واحد، عندما أظهر لمن مازالت لم تطمئن قلوبهم بأن ما جرى يوم 3 يونيو لم يكن شيئاً آخر سوى انقلاب عسكري على إرادة أغلبية المصريين.

بالغ الإعلام عندما أطلق على محاكمة ديكتاتور مصر السابق محاكمة القرن، لأن المحاكمة تحولت إلى أكبر مهزلة، وصار حرياً أن نسميها مهزلة القرن، بعد أن حكمت بالبراءة على من حكم مصر بالنار والحديد، ثلاثة عقود، وترك الفاسدين من حوله، ينهبون ثرواتها، في الوقت الذي تصدر فيه أحكام سريعة وقاسية بالسجن النافذ ضد قاصرين، فقط لأنهم تظاهروا. فكيف يستقيم أن نصدق أن القضاء الذي أصدر أحكام الإعدامات بالجملة ضد مئات في ظرف أسابيع قليلة، وبدون أدلة، أو حجج، وبحيثيات مهينة لتاريخ القضاء المصري، هو نفسه القضاء الذي أصدر حكمه بالبراءة على نظام حكم بكامله قتل 841 شهيداً، في 18 يوماً، أكثر من 551 منهم سقطوا في يوم واحد، هو يوم جمعة الغضب 28 يناير! حدث ذلك أمام الكاميرات، وتم نقله، في حينه، على الهواء مباشرة، ومع ذلك، لم يجد من نطق بحكم البراءة حرجاً في تبرير حكمه بأنه لم يجد في ملف القضية ما يكفي من الأدلة لإدانة المتهمين!

الحكم بالبراءة على مبارك ونجليه وأعوانه تبرئة لنظام العسكر وحكمه، فمبارك لم يكن سوى وكيل للمؤسسة التي نصبته على حكم مصر. أما الثورة التي كانت تمثل إرادة الشعب فهي لم تُسرق يوم 3 يونيو، بل قبل ذلك بكثير، يوم تدخل المجلس العسكري لإنقاذ حكم العسكر. كانت تلك هي الخديعة الكبرى، وما جرى، بعد ذلك، كان مجرد سيناريو محبوك الكتابة، ومتقن الإخراج. وقد انطلت الحيلة على الجميع من "الإخوان" الذين كانوا أول من سارعوا إلى الجلوس مع العسكر، للتفاوض حول غنائم الثورة، إلى "الثوار" الذين تحالفوا مع العسكر في 30 يونيو، لإسقاط "الإخوان"، طمعاً في مكاسب الحكم. نجح العسكر، بدهائهم وبما لمؤسستهم من قوة وإمكانات، في أن يضربوا "الثوار" بـ"الإخوان"، وأن يضربوا "الإخوان" بـ"الثوار" فخلا لهم الجو، بعد أن ضربوا عصفورين، الواحد بالآخر، ووفروا باقي الحجر، لمن يجرؤ على التغريد خارج السرب.

المؤكد أن مصر لم تخرج قط من تحت حكم العسكر، منذ 1952، وربما المرة الوحيدة التي فكرت فيها في فعل ذلك كانت عندما بدأ مبارك يعد نجله المدني لخلافته. كان ذلك أكبر أخطاء مبارك تجاه المؤسسة التي نَصَّبَته حاكماً مطلقاً باسمها على مصر. لذلك، لم يتردد العسكر في التضحية بوكيلهم في الحكم، ولو إلى حين، لأنهم لم يغفروا له خطأه بالتفكير في نقل السلطة من العسكر إلى مدني، حتى لو كان ليس شخصاً آخر سوى نجله. أما التطورات الأخرى التي شهدتها مصر في السنوات الثلاث الماضية فكانت أكبر "بروفة" انقلاب لاصطياد جميع معارضي حكم العسكر، بالاغتيالات الجماعية، والاعتقالات الجماعية، والمحاكمات الجماعية، وأحكام الإعدامات الجماعية.. تم كل شيء بالجملة، لأن المخرج الحقيقي كان يعرف كيف يقدر قيمة الزمن، وربما لأنه كان يدرك أن الفرصة لن تتاح له مرة أخرى. 

ما حصل ويحصل، اليوم، في مصر هو أكبر وأطول انقلاب عسكري في التاريخ، وأكثر انقلاب عسكري عرفته البشرية كلفة في الضحايا والمال، تجاوز عدد ضحاياه خمسة آلاف شهيد منذ 25 يناير، وأكثر من 40 ألف معتقل، وأكثر من 40 مليار دولار، موّلته بها دول خليجية، والفاتورة مازالت مفتوحة، وكلما سئل أصحابها هل امتلأتم مالاً ودماء؟ يقولون: هل من مزيد!

لكن، مع ذلك، وعلى الرغم، مرة أخرى، من كل ما حصل ويحصل، ليس من حق من يحلمون بالتغيير في مصر أن ييأسوا. فما يحصل اليوم في مصر من انقلابات متتالية على كل شيء، على السلطة وعلى الشرعية وعلى الشعب وعلى العدل وعلى الأخلاق وعلى كل القيم النبيلة، لا يجب أن ينسيهم دروس التاريخ. حدث شيء مشابه لما يتكرر، اليوم، بصورة أكثر تشويهاً في مصر، في أكثر من دولة في أميركا اللاتينية. حصل شيء مماثل في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي، عندما انقلب العسكر على أنظمة ديمقراطية، وحكموا بلدانهم بالحديد والنار سنوات طوالاً، وأصدروا أحكاماً ضد منطق العدل وحتمية التاريخ، تٌحَصِّن المجرمين والقتلة، وتدين الضحايا، لكن كل تلك الأنظمة انتهت في مزبلة التاريخ، وانتهى جنرالات الجيش مطاردين من العدالة، أما بلدانهم وشعوبهم، فاستأنفت مسيرتها على نهج الديمقراطية والتنمية. إنه حكم التاريخ الذي لا يخطئ، حتى وإن تأخر عن الصدور، ومن يسر على الطريق الصحيح لحتمية التاريخ ليس من حقه أن ييأس، أو يفقد الأمل.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).