منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي المتواصل ضد قطاع غزة في يوليو/تموز الماضي، والسؤال يُطرح عن إمكانية محاكمة السلطات السياسية والعسكرية الإسرائيلية أمام المحكمة الجنائية الدولية، ولا سيما أن الجرائم التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة ماثلة أمام الرأي العام العالمي وتُنقل على الهواء مباشرةً. ومع سقوط كل ضحية من المدنيين الفلسطينيين، تتعالى الأصوات مطالبةً السلطة الفلسطينية لكي تبذل قُصارى جهدها لتفعيل المحكمة الجنائية الدولية نيابةً عنها، ومقاضاة المسؤولين الإسرائيليين، سياسيين وعسكريين وأمنيين، أمام المحكمة بعد ما ارتكبوه من جرائم حرب بحق حوالي ألفَي مدني فلسطيني.
يقول الباحث في القانون والعلاقات الدولية، والمقرّر الخاص المعني بحقوق الإنسان الفلسطيني في الأمم المتحدة منذ العام 2008، ريتشارد فولك، إن "الأدلة الشاهدة على الجريمة الإسرائيلية تؤيد بقوة المزاعم الفلسطينية الأساسية". ويرى فولك أن "إسرائيل مذنبة إما بالعدوان وانتهاك ميثاق الأمم المتحدة، أو بانتهاك صارخ لالتزاماتها كقوة محتلة، بموجب اتفاقية جنيف لحماية السكان المدنيين". كما أن إسرائيل "مذنبة باستخدام القوة المفرطة وغير المتناسبة ضد مجتمع أعزل في قطاع غزة، فضلاً عن ارتكابها جرائم ضد الإنسانية بفرض نظام الفصل العنصري في الضفة الغربية ومواصلة مشروعها الاستيطاني" على حد تعبيره.
ويثني أستاذ السياسات الدولية في الجامعة الأميركية في واشنطن، ديفيد بوسكو، على كلام فولك. ويشدد بوسكو على أن الاتهامات باقتراف جرائم الحرب، التي طالما تم توجيه الكثير منها للإسرائيليين، عبر مسؤولين فلسطينيين وبعض المراقبين الدوليين على مدار سنوات طويلة، تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. يُضاف إلى ذلك "سلوك إسرائيل بوصفها دولة احتلال، وهو أكثر ما تخشى الدولة العبرية طرحه أمام الجنائية الدولية، لأن القانون الدولي يفرض التزامات، ولا سيما على الدول التي تحتل أراضي أجنبية".
ويشير بوسكو إلى أن سياسة الاستيطان الإسرائيلية تضع مسؤوليها تحت طائلة القانون الدولي. ويؤكد أن طبيعة صنع القرار في السياسة الاستيطانية الإسرائيلية من شأنها وضع كبار قادتها تحت طائلة المحكمة الجنائية الدولية. كما أن الانتهاكات المرتكبة أثناء العمليات العسكرية تضع الضباط من ذوي الرتب المتوسطة والعليا تحت طائلة المحكمة ذاتها.
أما البريطاني المتخصص في القانون الجنائي الدولي، عضو مكتب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، توبي كادمان، فيوضح بدوره أن المحكمة الجنائية الدولية ومدعي عام المحكمة، يشرعان بالتحقيق في التهم الموجهة للدولة العبرية، وفي توجيه الاتهام بالجرائم التي يُشتبه وقوعها خلال "حرب غزة"، بناءً على تكليفين: الأول من مجلس الأمن الدولي، وهذا التكليف مستبعد لأن أياً من الدول الأعضاء الدائمين في المجلس قد يستخدم حق النقض "الفيتو" ضد صدور التكليف. أما التكليف الثاني فيكون مباشراً، عندما تقوم الدولة الموقعة على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية بتقديم طلباً للمدعي العام للتحقيق في الجرائم الدولية المرتكبة على أراضيها أو بواسطة مواطنيها.
وعلى هذا الأساس، تتلخص الخطوات المطلوبة من "دولة" فلسطين، بوصفها "دولة عضو مراقب في الأمم المتحدة" للوصول إلى المحكمة الجنائية الدولية، أولاً باعتماد قرار سياسي فلسطيني رسمي بالتوجه للمحكمة، ثم تقديم رسالة من قبل رئيس دولة فلسطين للانضمام إلى ميثاق روما وطلب الانضمام للمحكمة. وبعد تقديم أو تسليم الرسالة، فإن الأمين العام للأمم المتحدة يوزعها على كل الأطراف في ميثاق روما، وتتم الموافقة على طلب الانضمام بعد 40 يوماً، ثم تُقدم الشكوى باسم الدولة الراغبة بالتوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية. وفي حال تقديم الشكوى للمدعي العام الدولي، فيمكن له أن يؤجل النظر في الشكوى لمدة سنة، وله الحق في تمديد الأمر سنة أخرى. وهناك اتفاق بين المحكمة وهيئة الأمم المتحدة، ممثلةً بأمينها العام، تنص على أن مجلس الأمن الدولي بمقدوره طلب تأجيل النظر في الشكوى لمدة سبع سنوات.
ويُمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تطلب من الدولة المشتكى عليها التحقيق واستنفاد قوانينها لمعاقبة المجرمين، استناداً إلى قوانين تلك الدولة. وفي حال فشلت أو تقاعست عن فعل ذلك، فإن المحكمة الجنائية الدولية تقوم بهذا الأمر من تلقاء نفسها. وبعد هذه الخطوات والتحقق من سلامتها، تبدأ الإجراءات الفنية، بما في ذلك تحديد الوقت المطلوب والإبلاغ عن القضية وإيداعها لدى المدعي العام الدولي.
وتعليقاً على قائمة الإجراءات التي تعمل بموجبها المحكمة الجنائية، يقول بوسكو إن الشروع في تحقيق الجنائية الدولية يُمكن أن يمثل من الناحية النظرية عنصراً رئيسياً في المعادلة الدبلوماسية، وقد يُعرّض مسؤولين إسرائيليين كباراً للمثول أمام المحاكمة في جرائم حرب. إلا أن بوسكو يُشكك، في مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، في جدوى التحرك الفلسطيني بالانضمام للجنائية الدولية، ويعتبر أنه "قد لا يُثمر مثل هذا التحرك عن تحقيق شامل في كل ما تقدم، فضلاً عن توجيه الاتهام للقادة الإسرائيليين، إذ أن لا أداء الجنائية الدولية ولا موقفها من القضية الفلسطينية يشيران إلى توفّر الرغبة لديها في إقحام نفسها في مثل هذا النزاع الشرق أوسطي الخطير". ويذكّر بوسكو بأن سجل المحكمة الجنائية الدولية، في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، يرجّح ميلها إلى عدم التدخل.
ويعيد الرجل الى الأذهان ما جرى إبان حرب غزة في 2008 ــ 2009 عند احتدام القتال في القطاع، عندما طلبت السلطة الفلسطينية من محكمة الجنائية الدولية التحقيق الرسمي في القضية، فقرر المدعي العام للمحكمة آنذاك، لويس مورينو أوكامبو، أنه ليس من اختصاص المحكمة تحديد هوية الجهات المتقدمة إليها من حيث كونها دولاً أم لا. ويرجح بوسكو ألا يختلف موقف المدعية العامة الحالية للمحكمة، فاتو بنسودا، عن موقف سلفها من فلسطين.
ويشير إلى موقف بنسودا عندما صوّتت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 بالغالبية على الاعتراف بدولة فلسطين، إذ كان من الممكن أن تعلن بنسودا وقتها عن قبول المحكمة النظر في الدعوى الفلسطينية ضد إسرائيل، إلا أنها أعادت الكرة إلى ملعب السياسيين، وأصرت أن تتقدم فلسطين بدعوى جديدة.
ويَخلص الكاتب إلى أنه إذا اختارت فلسطين سلوك طريق المحكمة الجنائية الدولية، فقد لا تصل في نهاية المطاف إلى ما تصبو إليه، فليس ثمة ما يدفع إلى الاعتقاد بأن المحكمة قد تنظر بجدية وتصدر أحكاماً ناجزة في القضية الفلسطينية.