تنطلق في ألمانيا، اليوم الأربعاء، المحادثات الأولى بين الاتحاد المسيحي، بزعامة المستشارة أنغيلا ميركل، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، بزعامة مارتن شولتز، لبلورة فرصة قيام طبعة متجددة من الائتلاف الكبير "غروكو"، في ظل محاولة الطرفين فرض شروطهما بهدف تحقيق المكاسب السياسية، وهو ما عكسته، خلال الأيام الأخيرة، التصريحات الإعلامية للضغط وحشر بعضهما بعضاً، كما وحفظ كلا الحزبين التقليديين مكانته أمام قاعدته الحزبية ومندوبيه.
الاستطلاعات الأولية ترى أن أي إصدار جديد من "غروكو" لن يتحقق في وقت قريب، وربما يكون ذلك في حدود مارس/آذار المقبل إذا توصل الطرفان إلى نهاية إيجابية للمفاوضات. وعليه تبقى كل الآمال معلقة أولاً على إعادة بناء الثقة، بفعل الندوب الموجودة في العلاقة بين الحزبين التقليديين، وذلك بعد الحملة الانتخابية التي خاضها شولتز والاتهامات التي سيقت بحق ميركل وحزبها، والاختلاف الكبير في مقاربة الملفات على المستوى الداخلي والأوروبي. علماً أن المحادثات لا تعني الخوض فعلياً في المفاوضات التي تأتي في المرحلة الثانية، وبعد وضع حل مبدئي للنقاط العالقة.
فخلال مؤتمر "الاشتراكي"، الذي عقد نهاية الأسبوع الماضي وأعلن خلاله الحزب تأييده لمحادثات مفتوحة مع الاتحاد المسيحي، بزعامة ميركل، إنما غير مضمونة النتائج حول تشكيل ائتلاف حكومي، وضع الحزب 11 قضية جوهرية ستناقش خلال الاجتماع، بينها رفض الاستمرار في حظر لم شمل اللاجئين أصحاب الحماية الثانوية، كما ورفضه الالتزام بسقف 200 ألف لاجئ التي يطالب بها شريك ميركل في الاتحاد المسيحي، الحزب البافاري الاجتماعي المسيحي، إضافة إلى موضوعات العدالة الاجتماعية وتخفيض الضرائب، كما وفرض تحسينات على العجز الهيكلي للنظام الصحي والمعاش التقاعدي والتعليم.
وتعد قضية اللاجئين من الخلافات الجوهرية بين الاتحاد المسيحي والحزب الاشتراكي، إذ شدد "الاتحاد" على ضرورة إيجاد حل توفيقي للم الشمل والتوصل إلى صيغة تقضي بقبول 200 ألف لاجئ في السنة كحد أقصى، فيما يصر "الاشتراكي" على مواصلة استقبال الأشخاص الذين يفرون من الحرب والاضطهاد والحصول على الحماية، في وقت أبدى وزير الداخلية الاتحادي، توماس دي ميزيير، المنتمي إلى حزب ميركل، شيئاً من المرونة، مطالباً الأحزاب بالتوصل إلى حل قبل مارس المقبل. وأضاف، في حديث لمجموعة "فونكه"، "لدينا جميعاً فرصة وواجب إيجاد حل مرضٍ في سياسة اللجوء من أجل التغلب على تقسيم مجتمعنا حول هذا الملف، خصوصاً حيال من يتمتعون بوضع محدود من الحماية"، فيما ركز الأمين العام الجديد للحزب الاشتراكي، لارس كلينغبال، على أهمية استثمار المليارات في التعليم وتحسين قطاعي الصحة والرعاية الاجتماعية والإصلاح في أوروبا.
أما في ما يتعلق بالسياسة الأوروبية، فقد عاد الحزب الاشتراكي ليضغط على الاتحاد المسيحي من خلال ما طرحه زعيمه خلال المؤتمر، حول فكرة إعادة بناء الاتحاد الأوروبي وتحويل كيانه إلى الولايات الأوروبية المتحدة بحلول 2025، في محاولة منه لدفع ميركل لاتخاذ موقف تجاه مستقبل أوروبا. وفي هذا الإطار، يرى خبراء في الشؤون السياسية الأوروبية أنه لن يتم إعادة بناء أوروبا بين يوم وآخر، وهذا الطرح فيه كثير من الوهم، لأن الهيكل المستقبلي لأوروبا بعيد المنال حالياً. وهنا تطرح العديد من الأسئلة، بشأن كيفية تنظيم القارة دفاعها المشترك وكيفية العمل على تأمين حدودها الخارجية، عدا عن الحديث عن استقرار العملة ضد الأزمات في المستقبل، وعما إذا كان الجميع سينضم ويوافق على ذلك؟ ويتوقف هؤلاء عند ما قاله شولتز من أنه إذا لم نغير الاتجاه ونعزز أوروبا بطريق عملية وملموسة فإن القوى اليمينية والشعبوية ستفوز، وعلى الدول الأعضاء أن تصادق على المعاهدة ومن يعارض عليه ترك الاتحاد الأوروبي.
هذا المقترح شككت فيه أيضاً ميركل. وقالت، بحسب ما ذكرت صحيفة "دي فيلت"، إن "هذا الهدف ليس أولوية، ويبدو أن الاشتراكي يجادل من أجل التغلب على نقاط الضعف. نحن بحاجة لنكون أقوياء اقتصادياً وتعميق التعاون في العديد من المجالات، والعمل معاً بشكل أفضل في مجال الدفاع المشترك والسياسة الخارجية والإنمائية المشتركة، ولهذا فإن كل التركيز من قبلنا سيكون بحلول العام 2025 على تعاون دفاعي أوروبي قوي". وقد تحدثت التقارير عن أنها ستركز خلال قمة الاتحاد الأوروبي، في بروكسل بعد أيام، على البحث في أمور التنمية في أوروبا. كذلك، دعا حزب الخضر شولتز إلى ضبط النفس، وأنه سيكون من الجيد التوصل إلى ائتلاف كبير في المرحلة المقبلة، وعبره يمكن تحقيق خطوات ضرورية وعاجلة في أوروبا، بينها تعميق الاتحاد الاقتصادي والنقدي. في موازاة ذلك، رفض رئيس كتلة الاتحاد المسيحي في البرلمان الألماني، فولكر كاودر، فكرة أن يجبر "الاشتراكي" حزب الاتحاد المسيحي على التنازلات والاستعراض الجماهيري مقابل المشاركة الحكومية، من دون أن يخفي نيته إعادة تكوين الائتلاف الكبير. وقال "إذا كنا نريد تعزيز أوروبا في هذا العالم المضطرب فنحن بحاجة إلى أغلبية لتأمين حكومة مستقرة آمنة"، معلناً رفضه لحكومة أقلية تجهد للحصول على أكثرية برلمانية للموافقة على مشاريعها. وأضاف كاودر "يجب الإسراع في الاستثمار العام، المدارس والبنية التحتية والرقمنة، وهي قضايا أساسية للحكومة"، مجدداً رفضه لم الشمل لأصحاب الحماية الثانوية من اللاجئين والولايات الأوروبية المتحدة، التي اعتبرها خطراً على الاتحاد الأوروبي، لأن أغلبية الدول الأعضاء لن تشارك بالتأكيد، متسائلاً عن القيمة المضافة لهذه الولايات الأوروبية المتحدة اليوم؟ واعتبر كاودر أن استثمار الدولة في الشرطة وتطوير القوانين أكثر إلحاحاً من تخفيض الضرائب، وذلك لضمان مزيد النظام والأمان.
وعليه، تبقى خيارات حكومة الأقلية بالنسبة إلى الحزب الاشتراكي واقعية، وهذا ما ترفضه ميركل التي تفضل إعادة الانتخابات. لكن القيادي في حزبها يانز سبان لم يستبعد، في حديث لصحيفة "بيلد" الأحد الماضي، خيار حكومة أقلية، قائلاً "إذا لم تسلك الأمور مسارها الصحيح مع الاشتراكي ربما نشكل حكومة أقلية بمفردنا"، وهو الأمر الذي أشار إليه قادة "الاشتراكي"، موضحين أن هذا الطرح وارد إذا ما لم يتم التوصل إلى تسوية ترضي طروحات حزبهم وتعيد له شيء من المصداقية لدى مناصريه. مع العلم أن ميركل طالبت "الاشتراكي" بمحادثات سريعة لأن العالم ينتظر منا فعلياً أن نعمل، و"المطلوب علاقات حكومية مستقرة، وهذا شرط أساسي للتصدي للتحديات المقبلة في أوروبا وألمانيا والعالم". في المقابل، هناك رأي يؤكد على أهمية أن تطمئن ميركل الحزب الاشتراكي، وأن حزبها لن يضع أي عقبات في طريق الحل، وهي التي لم يعد بوسعها الرهان على خيارات أخرى بعد سقوط أحلام ائتلاف "جامايكا"، وبالتالي سعيها لتمسك الطرفين بالدفاع عن القواسم المشتركة في محادثات جادة مع الاشتراكيين، قد تكون عناوينها النجاح في إيجاد عمل سياسي مشترك للسنوات القليلة المقبلة، وأن يركز الائتلاف المستقبلي على دوافع الأمن الاجتماعي والازدهار الاقتصادي والموازنة المتوازنة.
وتشير التوقعات إلى أن خوض مفاوضات تشكيل الحكومة ستكون خلال يناير/كانون الثاني المقبل، أي أنه ليس متوقعاً انطلاق مناقشات فعلية وموضوعية قبل عيدي الميلاد ورأس السنة، وهناك مطالبة لحزب ميركل بتفادي الأخطاء التي وقع فيها خلال مفاوضات "جامايكا" والحسم سريعاً في النقاط المشتركة الرئيسية، وبعد ذلك العمل على التفاصيل. كما وتقليل عدد المشاركين في المفاوضات وتحديد الأولويات، منها الأمن، الذي يأتي في المقام الأول للاتحاد المسيحي، في مقابل العدالة الاجتماعية للحزب الاشتراكي، والحد من التصريحات أو ما بات يسمى "السلاح اللفظي". وعندها يمكن الحديث عن التقاطعات الكبيرة بين الحزبين، التي من الممكن أن تسهل ولادة حكومة تعيد الزخم إلى العمل السياسي في برلين والاطمئنان إلى الاقتصاد، كما ومواصلة ألمانيا دورها في تطوير أوروبا.