يعتاد الإيطالي ستيفانو سافونا (1969) التوغّل عميقًا في أصول الحكايات المختارة لأفلامه الوثائقية. يُنقِّب في داخلها كي يصل إلى الجذور، فهذا أسلوبٌ يكتسبه من دراسته علم الآثار، الذي "يُفسِّر، من دون شكّ، ميله إلى البحث بدقّة، وإلى إزالة الطبقات التي تُخفي موضوع بحثه، من دون تدمير المُتراكَم"، كما في مقالة للفرنسي بيار باربانسي، منشورة في يومية "لومانيتيه" (14 مايو/ أيار 2018). يُلفت سافونا الانتباه إلى أسلوبه الوثائقي هذا في "ميدان التحرير" (2011)، المنبثق من البدايات الأولى لـ"ثورة 25 يناير" المصرية. يؤكّد تمكّنه في تفكيك الظاهر لكشف المخبّأ في "طريق آل السموني" (2018)، المعروض أولاً في تظاهرة "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي، والذي تبدأ عروضه التجارية الفرنسية اليوم الأربعاء، 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018.
في "ميدان التحرير" (Tahrir: Place de Liberation)، تنخرط كاميرا ستيفانو سافونا في مسام الثورة وناسها، متابعًا مساراتها الآنيّة، ومنقّبًا في أحوالٍ سابقة عليها، ومحاولاً قراءة امتداداتها المتشعّبة في الاجتماع والوعي والثقافة. هذه مسائل حاضرة في "طريق آل السموني"، إذْ تنكشف الحكاية الأصلية عن زمنين أساسيين، أوّلهما يسبق المجزرة التي تودي بحياة 29 فردًا من تلك العائلة الفلسطينية في حي الزيتون، أكبر أحياء مدينة غزّة، وثانيهما يرتبط بتصوير الفعل الجُرميّ الإسرائيلي بحقّ العائلة، المُنفّذ في 4 يناير/ كانون الثاني 2009 أثناء عملية "الرصاص المصبوب" (27 ديسمبر/ كانون الأول ـ 18 يناير/ كانون الثاني 2009) ضد قطاع غزّة.
تقول الحكاية الأصلية إنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي يُسيطر على حيّ الزيتون في 3 يناير/ كانون الثاني 2009، فيطلب من أفراد عائلة السموني (نحو 100 شخص) التجمّع في منزل وائل السموني. في اليوم التالي، يُقصف المنزل بشكلٍ متكرِّر، ويُقتل 29 فلسطينيًا من أبناء العائلة، وينجو آخرون: "إنه إعدام جماعي بدم بارد"، كما يصف الطبيب هيثم دبابش ("مستشفى الشفاء" في غزّة) الحالة التي يُعاينها. أما الحكاية السينمائية (سيناريو سافونا نفسه وليا ميريوس وبينيلوب بورتولوتزي)، الموزّعة على نمطين بصريين يجمع شخصيات حقيقية بمقاطع تحريك (المدير الفني للتحريك: سيمون ماسّي)، فتُعيد بناء الحالة العامة للحي ولناسه، وللقطاع وصدامه الدائم مع الاحتلال الإسرائيلي، وللعائلة وأفرادها، الأحياء منهم والشهداء.
وبحسب الفرنسي بيار باربانسي ـ الذي يُشير إلى "الشجاعة السياسية" لإدارة "نصف شهر المخرجين" بتقديم هذا الوثائقي "الذي يستحق من دون شكّ أن يشارك في المسابقة الرسمية (لمهرجان "كانّ")، طالما أن المضمون عميقٌ والبناء أصلي" ـ فإن كاميرا ستيفانو سافونا تعمل في اتّجاهات ثلاثة متكاملة: فهي "فرشاة تنفض الغبار" كي "تُذكِّر" و"نفهم". لذا، يتكامل "طريق آل السموني" في التزامه هذا النهج السينمائي الوثائقي، الذي يجعل التحريك انعكاسًا للحظة المجزرة جامعًا إياه بلقاءات ومتابعات وتصوير حيّ ليوميات حيّز جغرافي ومناخ إنساني وبيئة مُسالمة، ما يؤدّي إلى ابتكار صنيعٍ سينمائيّ (130 دقيقة) يتحرّر من وطأة التوثيق التقليدي، كي يتمكّن من تحديد المعالم الواقعية للجريمة الإسرائيلية، انطلاقًا من حسّ إنساني سينمائيّ يتماهى بعناوين أعمّ وأكبر، كالتضحية والمثابرة والتصدّي والمواجهة والتحدّي والانتماء والعيش اليومي.
وإذْ تلتزم اللقاءات والمتابعات الحسّية شرط الوثائقيّ في تمكين مُشاهِده من تكوين صورة حيوية وواقعية عن الحكاية الأصلية، بأبعادها وجوانبها وخلفياتها ومساراتها وناسها ومصائرهم، فإن التحريك قادرٌ على تحقيق غايتين اثنتين على الأقلّ: "إعادة تمثيل الجريمة" بلحظاتها وتفاصيلها وانفعالات ضحاياها وأفعال مرتكبيها؛ وإيجاد فسحة تأمّل سينمائيّ في الفعل الجُرميّ نفسه عبر ألوان غامقة ورسومٍ تبدو أقرب إلى قلم الرصاص، ربما كتذكيرٍ فني جمالي مبطّن بأن للرصاص جمالياته الفنية في توثيق اللحظة وتحصينها وحمايتها من الاندثار، وهي جماليات تناقض كلّيًا الرصاص القاتل للمحتلّ الإسرائيلي.
بهذا، يتكامل الجانبان أحدهما بالآخر في إعادة تشكيل الذاكرة الخاصّة بالناجين من الفعل الجُرميّ الإسرائيلي، الذين يواجهون سطوة سلطات فلسطينية تبغي الاستفادة من المجزرة في حسابات داخلية بحتة. إعادة تشكيل ذاكرة ستكون مفتوحة على سيرة العائلة وناسها، وعلى سيرة الحيّ وحضوره الاجتماعي والإنساني في الجغرافيا الفلسطينية، وعلى سيرة الصراع الدائم بين محتلّ ومقموع، بينما تتفرّد السيرة الأولى (سيرة العائلة وناسها) على السيرتين الأخريين بكونها النواة الدرامية للنصّ الوثائقيّ، وبقدرتها على التحوّل إلى "بورتريه" يُعيد رسم الصُور المتناثرة هنا وهناك، ويُحصِّن بعض الذاكرة من التلف والنسيان.
هذا كلّه في وثائقيّ يرتكز على حكايات مستلّة من ناجين من المجزرة، كآمال وفريد وأشقائهما وأقاربهما، الذين سيفقدون أهلاً ومنازل وحقول زيتون، والذين يُشاهدون ـ مع كاميرا ستيفانو سافونا ـ إعادة إعمار الحيّ المُقيمين فيه، والذين سيزرعون الأشجار ويحرثون الحقول أثناء مواجهتهم أحد أصعب المآزق الإنسانية والأخلاقية: فقدان الذاكرة.
وثائقيّ يؤكّد أن للذاكرة حقًّا في العيش أيضًا.