مجازر الرواتب وظلم ذوي القربى الفلسطينيين

08 ابريل 2017
+ الخط -
بين السياسة الوطنية وضرورة توكيدها وحسبانها على مفاهيم التحرّر الوطني من جهة والسياسات العدمية التسلطية والتدينية الساعية إلى قولبة المجتمع المحلي المدني، واختراقه وفرض مفاهيم استبدادية وشمولية عليه، بالإكراه وغلبة الرؤى الفردية والأحادية والوحدانية، أو الخلط بين هذا وذاك، وإحلال قيم ومفاهيم وأخلاقيات تتنافى والقيم المدنية الإنسانية المشتركة عالميا، والدينية الأكثر تنورا وانفتاحا وتسامحا؛ بين هذا وذاك، لا يمكن استمرار التعايش واستقرار أحوال الناس في مجتمعاتٍ طبيعية، جل ما في الأمر أن التعاكس الدائم والتصعيد الدائم في حال التسلط والاستبداد لا يمكنه أن ينتج استقرارا يساعد الناس على التفكير بعمق، في قضاياها الوطنية أو المعيشية. أما مواجهة الاحتلال فهي أقنوم آخر من أقانيم قوى تمتلك طبيعة خاصة، لا تتدهور أحوالها مع تدهور أحوال سلطة الاستبدادين، السياسي والديني، كما في بلاد عربية، وفي فلسطين تحديدا.
ولئن كان هناك على الدوام من يخدع الناس أحيانا، ويخادع نفسه دائما، فتلك طامة كبرى يرتكبها النزوع التسلطي، من دون أن يرفّ له جفن؛ ذلك أن أصحاب هذا النزوع والمنازع الطغيانية يتعامون دائما عن نتائج ما يزرعوه في التربة المجتمعية والثقافية والسياسية، ليحصد المجتمع تلك الثمرات المرّة التي لا تتوافق مع قيم وأخلاقيات ترسبت عبر القرون، بعيدا عن القولبات الأيديولوجية الظلامية التي بدأت تتسّرب عبر مسلكيات فقه التوحش، والعنصريات المذهبية الشعبوية والشعوبية لدى دواعش عصرنا من كل الاتجاهات والتوجهات، وتحت ظلالها يراد لمجتمعاتنا الخضوع والاستسلام المهين لطغاة السلطة الأبوية وطغيان الاحتلال.
وإذ لم يعد من أمل في "مصالحةٍ" بين حركتي فتح وحماس باتت من الماضي، فيما الانقسام سيبقى سيد الموقف، طالما أن المستثمرين والمنتفعين منه يوظفون جل طاقاتهم في خدمة النزعات السلطوية، وهي تسعى بدورها، وعبر نزوعها الغريزي التدميري الذاتوي، للبقاء رهينة التحكم بقضية شعبٍ بات يوقعها الانقسام السياسي والجغرافي، والتشدّد الأيديولوجي وتطرفاته المتنوعة، ضحية التلاعب الفئوي والفصائلي والإقليمي والدولي، على الضد من إرث شعب فلسطين وتراثه وتقاليده وقيمه وأخلاقياته التي تؤكدها هويته الوطنية.
أما كل هوية أخرى يدعيها بعضهم ويزعم أنها بديل الهوية الوطنية الجامعة التي حازها
 ويحوزها الفلسطينيون على مر الأزمان، فهي دخيلةٌ على هذا الشعب الذي يستحيل اختزال تاريخه بهذا الرداء أو ذاك الزي والرايات السوداء، فقد أرخت الأرض لتاريخ شعبها من دون تدخلات أصحاب الغايات البطريركية، ونزوعهم السلطوي الغريزي المدمر للذات، ولقضية شعبٍ يريد أن يؤكد للجميع أنه الأحق بامتلاك الأرض، والأحق بأن يؤرخ هو، لا غيره، لسرديّات وجوده على هذه الأرض.
وليتذكّر الجاحدون من كل الأطراف أن الحقيقة لا تحوزها السلطة، أي سلطة، بل هي ملك الناس، جميع الناس المهمومين بالأرض التي يسقونها على الدوام بسقيا العرق والدموع والدماء. والوطن الفلسطيني كما كان قبل الاحتلال، وكما سيكون بعده، لن يكون إلا وطن كل مواطنيه الأحرار، من دون تصنيفات الأكثرية والأقليات وتقسيمات الطوائف والمذاهب، والمناطق والجهات، وخزعبلات أصحاب السلطة أو السلطات الأبوية. فهل من يتعظ من بؤس المشروع التدميري الذاتوي بهوياته الفئوية القاتلة، فيستعيد ألق الكفاح التحرّري، وليستفيد من بؤس المشروع الوطني الفلسطيني، صاحب الهوية الوطنية الجامعة للكل الفلسطيني؟ وفي الأخير، حق لنا أن نسأل: ما الذي يراد لفلسطين أن تكونه، سوى أن تكون على صورتنا جميعا؟ أم هناك من يراها من منظوره الضيق على صورته هو، كذات باتت تضيق بما يفترض أنه الموضوع الجامع للكل الفلسطيني.
ما الذي يجري اليوم في فلسطين، أو تحديدا في أراضي السلطة الفلسطينية، وهي ما يفترض أن تكون السيادة فيها للدولة الفلسطينية المفترضة، بعد إنجاز مسلسل المفاوضات؛ وقبل ذلك ماذا يراد لفلسطين أن تكونه، تحت سلطةٍ هنا أو هناك، لا تمتلك سوى أن تقوم بأدوار تسلطية تعادي السياسة والمجتمع والناس، حين يطلقون صرخة المظلوم في وجه الظالم الجائر، فلا يجدون من ينصرهم لا في مواجهة الاحتلال، ولا في مواجهة جور الاستبداد والسياسات الجائرة، وهي تتخطّى حواجز الحكمة واللامبالاة بحياة المحكومين، ولم يبق سوى أن يصرخ الحاكمون وأجهزتهم الأمنية، ومعهم الحرامية ذاتهم، على غرار صرخة الرئيس المصري أنور السادات الشهيرة يومها ضد انتفاضة جياع مصر بأنها "انتفاضة حرامية".
عاش فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة، أخيرا، في حضرة روائح البارود وسرديات
المجازر وإهانة الرواتب وانتهاك حرمات الحياة المعيشية للمواطن الفلسطيني، من حكام "الأمر الأوسلوي" كما من حكام "الأمر الواقع" والحصارات الإسرائيلية المطبقة. ولو تمعنا في عناوين بعض المواقع الفلسطينية والتغريدات، لوجدنا الآتي: تحذير من العواقب السياسية والاجتماعية لمجزرة الرواتب. ما جرى في مخيم الجلزون مجزرة. لا حكمة في قرار الخصومات من رواتب الموظفين ومسيرات احتجاجية. الحركة (فتح) لن تقف مكتوفة الأيدي أمام مجزرة الرواتب. جريمة الرواتب لن تمرّ، وسنتصدى لها بكل الوسائل.
وإذ طالب مركز الميزان لحقوق الإنسان السلطة الفلسطينية بالوفاء بالتزاماتها تجاه موظفيها والتقيد بنصوص القانون، أفاد المركز، وفق المعلومات الميدانية المتاحة، بأن الأمر لم يقتصر على عمليات الحسم التي طاولت 30% بل تجاوزته إلى قطع رواتب 542 من العاملين، سواء من أساتذة الجامعة أو الإداريين المسجلين لدى وزارة المالية على ملاك جامعة الأقصى. هذا بالإضافة إلى أن الحكومة تدرس مشروع قانون التقاعد المبكر لقوى الأمن في السلطة، الأمر الذي قد ينطوي على مزيد من الإجحاف بحق الموظفين العسكريين.
في المقابل، تقوم "سلطة الأراضي" التي تسيطر عليها حركة حماس في الحي الأميركي شمال قطاع غزة، بتجريف الأراضي وتهيئتها لتوزيعها على موظفيها الذين لم يتقاضوا رواتبهم كاملة، ولهم استحقاقات مالية. ولهذا الغرض، أطلق عناصر من أمن "حماس"، يوم الثلاثاء 4 إبريل/ نيسان عدة رصاصات على قدم المصور الصحافي، عاهد بسام العبادي، بعد أن قرّر عدم خروجه من منزله، والذي تقوم سلطة الأراضي بتجريفه، بذريعة أنه أراض حكومية.
وحسب شهود عيان أن المصور العبادي، بعد أن رفض إخلاء منزله، هو وأسرته، أطلق أحد أفراد شرطة حماس النار على قدمه، ما أدى إلى إصابته إصابة بالغة، استدعت نقله إلى المستشفى الأندلسي. وحسب شهادة الطبيب المعالج، قدم العبادي المصابة مهدّدة بالبتر، بعد أن تبين وجود قطع في الشريان والأوردة والأعصاب، الأمر الذي قد يعرّض القدم للبتر.
هكذا وكأنه لا يكفي أن يكون الشعب الفلسطيني كله في مرمى رياح الاحتلال، لكي يفرض عليه فرضا، ومن "قياداته" السلطوية، أن يكون في مرمى رياح العوز والإفقار وزيادة مظالمه مظالم أخرى، ليضع أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، وفي قطاع غزة، تحت مرمى تهديد السلم الأهلي المضاف إلى تهديد السلم الوطني، فأي عدالةٍ وحكم رشيد يمكن أن تحققها السلطة الحاكمة، والمحكومة في الوقت نفسه لصالح أجندات غير وطنية، وما الذي يمكن أن تجلبه السلطة الفردية والأحكام السلطوية غير تعميق الأزمات الاجتماعية، وإيجاد مزيد من الشروخ والانقسامات السياسية، وأي عدالةٍ أو مساواةٍ يمكن أن تحققها أنظمةٌ سلطوية، لا تقيم سوى عند حدود الاختلالات البنيوية لوظائفها المتعارف عليها، وفي ما "تخترعه" و"تكتشفه" في سياق تسلطها من وظائف دخيلة، لا حسيب ولا رقيب عليها، وقد أتيح لها، مع الوقت، سلوك دروب التفرّد ونهب المال العام. ولا يفاقم هذا كله سوى الكراهية وغضب الناس، وتفلتها من ضوابط (ومعايير) الالتزام بما أرادته وتريده السلطة من انتظام محكوميها وانقيادهم لأوامرها، خصوصا وأن المرحلة هي مرحلة تحرّر وطني، لا مرحلة بذخ ورفاهية سلطة، على حساب شعبٍ يعاني مرارات الاحتلال وظلمه، وظلم ذوي القربى سواء بسواء.
دلالات
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.