متلازمة الخروج من المكتبة

14 يونيو 2015

الدنيا لا تتحرك بالسرعة التي نُقلّب فيها الصفحات(Getty)

+ الخط -
لا يمكن اليوم التعاطي الإيجابي مع أي نقد يطال حالة الانهماك الثقافي التي تعيشها قطاعات شبابية واسعة، لن يقبل هذا النقد وسينظر إليه على أنه يستهدف حلماً طويلاً، طالما راود المجتمعات العربية، أن يتكاثر الشباب في نوادي القراءة، وينشغلوا بتتبع آخر الكتب والمنافذ المعرفية، وتحضر أسماء المثقفين والمفكرين في حواراتهم، بدل أي أسماء أخرى. كل هذا يبدو جميلا إلى حد يجعل نقده مغامرة خطرة. 
ولكن النقد داخل هذه الحالة هو في صلب تصورها كحلم انتظرناه، أو واقع نخاف تبدّله، فإن لم تكن هذه الحالة برمتها ستنتج فكراً نقدياً فأي إضافة ستقدم؟ ولذلك، يمكن اعتبار هذه الأسطر نقداً من داخل الحالة التي تبعث على الغبطة والسرور، ومحور النقاش تمكن تسميته هنا بمتلازمة الخروج من المكتبة.
ما يحدث عمليا أن أفواج الشباب تدخل عالم الثقافة والكتب، تدخله وتغلق الباب على نفسها غالبا، وتبدأ بالدوران في فلك يؤّمه ذوو الانشغالات القريبة والهموم المعرفية المتشابهة، فيبدو مؤلفو الكتب أصدقاء جدداً ومتوفرين في كل حين، ويبدأ العالم بالتغيير، بل الأصح تبدأ النظرة إلى هذا العالم تتغير. كثيراً ما يختصر قارئ/ة مدح كتاب بالقول إنه "غيّرني". والحقيقة أنه غير زاوية النظر إلى هذا العالم، وبالتالي، غيّر الموقف منه. والمتغيرون في عالم الثقافة والكتب كثيرون، ولعل هذا جزء أصيل من سحره.
شئنا أم أبينا، تخلّف التجربة الجادة مع المكتبة انقطاعاً عن العالم المحيط، تشكّل عالماً موازياً مكتملاً إلى حد بعيد، خصوصاً عن الشباب والشابات الذين لا تضطرهم شواغل العمل والأسرة والحياة إلى مفارقة المكتبة مراراً، أو تمنعهم أصلاً من العزلة داخلها. والمكتبة هنا تعني هذا العالم الجديد، وليس المكان الفيزيائي، وحسب.
ولكن، لا بد يوماً من خروج ما، اضطراري غالبا، لمواجهة الواقع أو المجتمع، وقد يحدث، بعد سنوات من الانقطاع في أفلاك الكتب والمثقفين والحالة الشبابية الزاهية، وقد يكون السبب تغيراً سياسياً أو حادثاً شخصياً أو أي حدث يتعارض فيه عالما المكتبة والواقع. حينها، قد تظهر أعراض متلازمة الخروج من المكتبة، وهي، باختصار، اكتشاف أن التغير الذي حدث بالداخل شأن شخصي، ولم يشمل المجتمع والأصدقاء والنخب السياسية والعالم، أن العالم لا يزال كما هو، في حين تغير هذا الخارج إلى العالم من مكتبته. عندها، قد يصعب التعاطي مع هذا الانشطار.
سيظل هنالك تساؤل من أعراض المتلازمة عن عقلانية الناس ووعيهم وطريقة إدراكهم الأمور. سيخرج المنشغل بقراءة أنماط التديّن، ليجد تديّنا هجينا لا يتسق مع التصورات التي شكلها في المكتبة، وسيجد العقلاني أن الكل يدعي امتلاك ذاك "العقل"، وسيجد المشغول بالتغيير الاجتماعي والثورة أن الثورة تحدث، في غياب الطبقة التي عوّل عليها ورآها الحامل الوحيد الممكن لأي أمواج ثورية. بالضبط، كما لن يجد كثيرون الحب في الروايات كالحب في الواقع.
تخلف المتلازمة احتمالات فعل عديدة، إنكار عالم المكتبة والانشداد إلى الواقع لأنه "الحقيقي"، إنكار الواقع والعودة إلى المكتبة، سعياً إلى مزيد من الفهم، أو ربما العودة، بدافع الألفة وتحصيل الاتزان النفسي، وربما القناعة التامة بأن هذين عالمان منفصلان. ولا شك أن إذابة الحدود بين المكتبة وخارجها حلم قديم، والخلاف على تحقيقه مستمر، ويغدو موضوعاً مكتباتياً، يناقشه الماكثون في المكتبة دوما، وفي أحيان كثيرة، يخرجون لإزالة هذا الفاصل، لكنهم يحملون المكتبة في داخلهم فتنتج عن المحاولة شعارات ورمزيات كثيرة فقط.
لمواجهة هذه المتلازمة، ولو نسبيا، قد يكون مفيداً تفقد الواقع كل حين، وأخذ وقت مستقطع من عالم المكتبة، لإدراك أن الدنيا لا تتحرك بالسرعة التي نُقلّب فيها الصفحات.
2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين