متاهة التقويل

28 سبتمبر 2018
(عمل تركيبي لـ آي ويوي)
+ الخط -

في واحد من التحريفات الطريفة لمصطلح "التأويل"، نقل أحد أصدقائنا مصطلح "التقويل" للتداول. وبهذا القلب اللطيف للهمزة، كان المصطلح يأخذ بُعداً جديداً من حيث المعنى. والأكثر طرافة هو أنه يستطيع أن يُعبّر عن أحوال شرائح واسعة من "التقويليين" الذين بدأوا يتكاثرون في حياتنا الثقافية.

وقد بات القارئ التقويلي قارئاً خطِراً، والراجح أنه سليل التعصّب والانغلاق والمصادرة. لا يقرأ للمعرفة والثقافة الحرّة، بل يقرأ ليمنع القراءة، أو ليمنع حرية القراءة. ليبحث عن الفكرة التي يعتبرها ضارّة ويقتلعها من الجذور، ولن يكون بوسعه أن يفعل ذلك إلّا إذا استطاع أن يُحمّل النص المقروء أقوالاً تفترض أنها سوف تُدينه.

والتقويل في هذه الحالة تأويل مسموم يعتمد على جملة من المعطيات المتوفّرة لدى الجمهور المتلقّي، وقد لا تستكمل القراءة التقويلية دون ذلك، ومنها: جهل الجمهور، وهو جهل ناجم عن الأمية أولاً؛ فالغالبية ممن يخاطبهم أميّون لا يقرؤون ولا يكتبون، وبإمكان القارئ التقويلي أن يتوجّه إليهم بالكلام الشفهي المسموع، فهم يسمعون طبعاً، وثمّة أنصاف متعلّمين، ولدى هؤلاء القدرة على حمل الأفكار الجاهزة، والتباهي بها، والادعاء بأصالة انتمائها إلى معارفهم. منها أيضاً: التعصّب القومي والطائفي والعرقي والفكري، ولكل طائفة من هؤلاء قارئ تقويلي يُغذّي التعصّب، أو يشحذه لمعاداة أي فكرة تجديدية بتقويلها المعاني المنكرة.

ويمكن أن نجد هؤلاء في تاريخ الفكر، ومنهم متعصّبون أيديولوجيون، ومثالهم بعض أولئك الذين يقوّلون الرواية أو الشعر غير ما تقول، أو يدينون كل اتجاه فنّي لا يرضخ للتعليمات، أو مثالهم أولئك الذين يعتبرون الفكر المختلف معادياً أو خائناً.

ويحتاج القارئ التقويلي إلى أداة منفذة هي القارئ الخنوع، أو الامتثالي، كي يستطيع أن يكون مؤثّراً، وهو نوع آخر من القرّاء الذين يحتاجون إلى أدلّاء ومرشدين في حقول المعرفة، أو هو قارئ ينتمي إلى الفئات التي اعتادت أن تكون امتثالية في الحياة اليومية، وفي الخبرات السياسية والدينية والاجتماعية.

هذا نمط من اللافاعلية ظهر، واستتب في الأحزاب التي اعتمدت على نظريات شمولية، فقد كانت بنية تلك الأحزاب تتّسم بالخنوع التراتبي، ومن أجل ذلك اخترعت بعض الأحزاب مبدأ حزبياً سمّته "المركزية الديموقراطية"، وهو مبدأ تلفيقي يُعمّم الطغيان والاستبداد الحزبيَّين، تحت يافطة الديموقراطية؛ فالعضو خاضع للسكرتير الخاضع بدوره لسكرتير أعلى إلى أن تصل إلى السكرتير العام.. سلسلة خنوع فكري تعتمد على الامتثالية والقراءات الجاهزة، وتفتقر إلى أي "تأويل".

والتقويل هنا يغلق النوافذ، بينما يفتح التأويل كل نافذة ممكنة للقراءة الحرّة. وهناك من يعتبر أن التأويل، وخاصّة في مضمار الأدب، بحث عن الكنوز في النص المقروء، وأن القراءة التأويلية هي التي تمنح النص قيمته الحقيقية. وفي مواجهة أي نص لا معنى للقراءة دون أن يكون القارئ قادراً على استخلاص المعنى من النص. ولكن لكل قراءة حرية خاصة في هذه النتيجة، هي حرية يجب أن لا تُصادِر حقّ الآخرين في قراءة حرّة مماثلة.

دلالات
المساهمون