مبادرات شبابية في رمضان

14 يوليو 2015

من زينة رمضان في عمّان

+ الخط -
لا يمكننا أن ننتظر مئات السنين، ولا حتى عشرات السنين، لكي نصنع لأنفسنا سياقاً تاريخياً كالذي عبرته الأمم الأخرى التي تكرّست عندها قيم المدنيّة والمواطنة، فتصير تلك القيم موجودة في الممارسة المجتمعية اليومية، فضلاً عن وجودها في نصوص القانون التي يحترمها الناس، ويعملون بها.
لا يمكننا، ولا نستطيع، لأن العالم تجاوزنا بمراحل، وبتنا كأننا "خارج التاريخ". لذا، نحن مضطرون إلى "حرق المراحل"، إن أردنا المشاركة في الحضارة الإنسانية المعاصرة، بمعناها القيمي الذي يوفر للفرد شعوره بإنسانيته، بما في ذلك الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص، ومجمل حقوق الإنسان التي تنعم بها أمم الأرض المتحضّرة.
لعل أصل المسألة يتعلق عندنا بفكرة "الوطن" نفسها، وهي إشكالية تعيشها المجتمعات العربية منذ تأسست "الدولة العربية المعاصرة"، عقب الحرب العالمية الثانية، وزوال الاستعمار العسكري المباشر، وملخصها أن "الناس" (لا المواطنين) ينظرون إلى "بلدانهم" (لا أوطانهم) باعتبارها كعكة يتقاسمونها، على أساس المحاصصة، الطائفية أو القبلية أو المناطقية، لا باعتبارها وحدة واحدة، ينعمون جميعهم، بما فيها على أساس التكافؤ في الحقوق والواجبات، فيكون من مصلحتهم الحفاظ على "ما فيها" من ممتلكات عامة، وخيرات، وموارد.
هكذا، تكون ثمة حاجة مبدئية لتكريس فكرة التشارك في "الوطن"، باعتباره واجباً، لا مكاسب فردية مباشرة تُرتجى منه. وتلفت الانتباه، في شهر رمضان المبارك الجاري، المبادرات الإنسانية الكثيرة التي يقوم عليها شباب في العشرينيات من أعمارهم، يجتهدون فيها ولا ينتظرون حمداً ولا شكوراً، في مختلف البلدان العربية، حسبما يمكن للمرء أن يطلع عبر الإعلام، والإعلام الجديد المبني على التواصل الاجتماعي، وهي مبادرات تعكس الحسّ الإنساني العالي لهؤلاء الشباب، وانتماءهم الحقيقي لهذه الوحدة الواحدة التي يعرّفونها "وطناً"، لا كعكة يريدون منها حصة على أساس انتمائهم العرقي الذي لا فضل لهم فيه، كما يفعل آخرون: يُسمع ضجيجهم، ولا يُرى منهم طحناً!
من هذه المبادرات، جمع الطعام الفائض من الفنادق، والمناسبات الكبرى، وتوزيعه مباشرة على العائلات المحتاجة، على أساس منظّم بعيد عن الارتجال، من حيث جمع الطعام، وتصنيفه، وتكوين وجبات صحية منه، وتغليفه، وحفظه، ونقله. ثمة مبادرات أخرى، تقوم على جمع تبرعات وصدقات من الناس، ورصد العائلات المحتاجة لإيصالها لها، خصوصا القاطنة في مناطق نائية. هناك مبادرات شبابية لمساعدة كبار السن، وأخرى لتوزيع الماء والتمر في الشوارع على الذين تضطرهم ظروفهم للتأخر عن بلوغ بيوتهم قبل موعد الإفطار. كلها مبادرات نبيلة، وأنبل ما فيها الحماس المتّقد لشباب وشابات ما يزالون في مقتبل العمر.
تمثل هذه المبادرات الرمضانية النبيلة امتداداً لمبادرات شبابية إنسانية، باتت تنتشر طوال العام، ليست كلها من قبيل مساعدة المحتاجين وإيصال الصدقات، بل منها ما يتعلق بنشر المعرفة، والقراءة، والموسيقى، وليس ذلك غريباً على منطقة من العالم، قام شبابها بالثورة على الاستبداد، لو قصرنا النظر عن مآلات تلك الثورات حتى تاريخه.
هل نملك إزاء أعمال تطوعية عظيمة كهذه، إلا أن نشعر بالفرق الذي يصنعه هؤلاء الشباب تجاه أوطانهم، التي يمارسون الانتماء لها بصمت وهدوء وزهد بالأضواء؟ لا يطلبون دعم أحد، فهم قادرون على العمل بمفردهم.
علينا أن نقول لمجمل هؤلاء الشباب، من خلال الاحتضان والتشجيع على التطوّع والعمل العام: إنه لا مشاعر وطنيّة حقيقية، ما لم تدفع صاحبها للبناء. لا يكفي أن تشعر بحب وطنك، وأمتّك، ودينك، إن لم تترجم ذلك الحب في فعل يخدم الناس، ولا تنتظر منه مكسباً أو مصلحة. علينا أيضاً، ونحن نشجع الشباب، ألا نغفل عن أن الخدمة التطوعية المفيدة، لا يجوز أن تكون إكراهية أو إلزامية، لأنها ساعتها ستكون بمثابة واجب ثقيل الظل، لا يصنع فرقاً، ولا يترك أثراً عميقاً يمكث في الأرض.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.