حتى لو أرادت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، معاقبة روسيا اقتصاديا وماليا، في أعقاب اتهام موسكو بأنها وراء تسميم رجل المخابرات المزدوج سكريبال وابنته بغاز أعصاب بمدينة سالسبري، فإنها لن تقدم على هذه الخطوة، بل وربما لن تستطيع فرض عقوبات قاسية في ظل الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد وحاجة بريطانيا الشديدة لاستثمارات خارجية تدعمها في مرحلة ما بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي "البريكست".
وكانت بريطانيا قد طردت 23 دبلومسياً يوم الثلاثاء، في أولى خطوات العقوبات على موسكو.
وبحسب محللين ماليين، فإنه "ربما تكون بريطانيا في حاجة إلى دعم أوروبي وأميركي حتى تتمكن من تنفيذ إجراءات اقتصادية ومالية فعالة ضد نظام الرئيس بوتين، لأنها لوحدها ستكون متضررة من الحظر، في وقت تتلمس فيه بريطانيا خطوات بناء فضاء تجاري جديد بعد "البريكست".
وتعد جزر فيرجن التابعة لبريطانيا من أكبر مراكز الأفشور المحتوية على موجودات روسية، حسب وكالة نوفوستي الروسية.
وتقدرالاستثمارات الروسية المتراكمة في بريطانيا بنحو 9.1 مليارات دولار، وبلغ حجم الاستثمارات الروسية في جزر "فيرجن" حوالي 60.9 مليار دولار.وتتركز ثروات الروس، في حي المال البريطاني، في الشركات المسجلة في البورصة والعقارات وبعض الاستثمارات الفاخرة في الأندية الرياضية وملاعب الغولف.
ومن بين الاستثمارات التي من المتوقع أن تتأثر بإجراءات الحظر أو التجميد المالي البريطانية، إن حدثت، صناديق الاستثمارات في العقارات البريطانية، حيث يملك الأثرياء الروس استثمارات عقارية كبيرة في بريطانيا.
ووفقا لتقديرات وكالة "نايت فرانك" اللندنية، تبلغ نسبة الاستثمارات الروسية في المساكن البريطانية التي يفوق ثمنها مليوني جنيه استرليني نسبة 4% من إجمالي عدد المساكن، كما قدرت نسبة الاستثمارات الروسية في العقارات فوق 10 ملايين جنيه استرليني بـ10%.
لكن من الصعب التنبؤ بتأثر الاستثمارات العقارية في بريطانيا بأية إجراءات عقابية على روسيا في المستقبل.
وبحسب الإحصاءات الرسمية لحجم الاستثمارات بين البلدين، وبلغة الأرقام، فإن أي حظر أو تجميد للأموال الروسية سيضر بريطانيا أكثر من روسيا، حيث أن حجم الاستثمارات البريطانية في روسيا كبيرة، مقارنة بالاستثمارات الروسية في المملكة المتحدة.
ولدى المملكة المتحدة استثمارات في روسيا تقدر بـ46 مليار جنيه استرليني (نحو 64 مليار دولار)، ولدى روسيا استثمارات تقدر بـ27 مليار جنيه استرليني (37.8 مليار دولار)، لكن هذا الرقم لا يعكس التغيير الذي طرأ على الاستثمارات الروسية في أعقاب استفتاء "بريكست".
واستناداً إلى إحصاءات بنك التسويات الدولية الأخيرة، فإن قروض البنوك البريطانية للقطاع العام والشركات الخاصة في روسيا تقدر بـ19 مليار جنيه استرليني (26.6 مليار دولار)، وعليها التزامات للقطاعين العام والخاص الروسيين تقدر بـ42 مليار جنيه استرليني (58.8 مليار دولار)، معظمها في شكل ضمانات مالية.
وهذه الأرقام كبيرة، بحيث تجعل فرض إجراءات عقابية بريطانية على روسيا قراراً صعباً على رئيسة الوزراء تيريزا ماي.
وتفيد التقديرات الرسمية بأن عدد الروس في بريطانيا يناهز 150 ألفاً، معظمهم من كبار المستثمرين، وبينهم أثرياء كبار احتلوا مراكز متقدمة في قائمة فوربس للأثرياء، مثل إبراهيموفيتش الذي يملك نادي تشيلسي اللندني الشهير، وعسمانوف، وآخرين يملكون مئات وعشرات الملايين. وهؤلاء يشكلون نسبة مهمة في ماكينة تدوير المال وصناعة الصفقات في حي المال البريطاني.
وعلى صعيد حي المال، يقول خبراء في سوق المال البريطاني "إن أسهم الشركات الروسية المسجلة في بورصة لندن ستنخفض في حال تطبيق أية إجراءات عقابية واسعة ضد موسكو، كما أن الشركات البريطانية التي تتعامل مع روسيا ستواجه، هي أيضاً، احتمالات هبوط أسهمها".
ويبدو أن الإجراء الوحيد الذي سيكون مؤثراً هو حظر روسيا من التعامل المالي عبر تحويلات نظام "سويفت"، ومثل هذا الإجراء يحتاج إلى تعاون أميركي كبير، في وقت لا تبدو العلاقات البريطانية الأميركية تملك درجة الحرارة الكافية لدعم بريطانيا في قرار كبير كهذا.
وحتى الآن يرى خبراء أن أمام رئيسة الوزراء البريطانية خيارات محدودة لمعاقبة موسكو التي تنفي حتى الآن المزاعم البريطانية، ومن بين الخيارات المتاحة تجميد الموجودات والأصول الروسية لبعض الأثرياء والشركات الروسية المستثمرة في السوق البريطانية.
لكن صحيفة "فايناشيال تايمز" لاحظت أن العديد من الأثرياء الروس الموجودين في بريطانيا لديهم جوازات بريطانية، وبالتالي لا ينطبق عليهم التجميد حتى في حال إقراره. ومن الخيارات الأخرى إلغاء رخصة قناة "آر تي" الروسية ومقاطعة فريق كرة القدم البريطاني لمباريات كأس العالم التي ستنظم في موسكو.
لكن يشكك خبراء في حي المال البريطاني في أن تتمكن مثل هذه الخطوات في ردع سلوكيات بوتين العدوانية تجاه بريطانيا. ويشيرون في هذا الصدد إلى فشل إجراءات الحظر الغربية السابقة التي نفذتها كل من أميركا ودول الاتحاد الأوروبي ضد روسيا وشددت أكثر من ثلاث مرات، منذ ضم موسكو لشبه جزيرة القرم قبل 3 أعوام.
ولاحظوا أن التعاون الاقتصادي والمالي القوي بين موسكو وبكين، أصبح درعاً يحمي روسيا من الحظر الغربي. وباتت الشركات الروسية قادرة على الحصول على التمويل المطلوب من الشركات الصينية.
وتنامى حجم التبادل التجاري وتدفق الاستثمارات الصينية إلى روسيا بشكل كبير منذ الحظر الاقتصادي الغربي في العام 2014. كما ذكر محللون أن الشركات الروسية قللت من الاقتراض الخارجي في السنوات الأخيرة وباتت أكثر كفاءة في تشغيل رأس المال.
في هذا الصدد، قال الشريك في مؤسسة "ماكرو أدفايزري" للاستشارات المالية بموسكو، كريس ويفار، لصحيفة "فاينانشيال تايمز": "على رغم إجراءات الحظر الضخمة التي نفذت ضد روسيا، فإنه كان في صالح الاقتصاد الروسي، حيث إنه أجبر الشركات الروسية على خفض الاعتماد على الاقتراض الغربي وزاد من كفاءتها".
وأضاف ويفار أن الآثار السالبة لانهيار أسعار النفط في منتصف 2014 كانت أكبر من تأثير الحظر. وفي الواقع، فإن الشركات الروسية وقعت صفقات ضخمة، خاصة في مجال النفط والغاز الطبيعي، بلغت مئات المليارات من الدولارات مع الصين، كما أن شركات الطاقة الروسية رفعت من صادراتها للصين ودخلت معها في شراكات وحيازات مالية.
ولاحظ ويفار أن إجراءت الحظر الأخيرة التي نفذتها أميركا ضد رجال الأعمال والشركات التي تعد قريبة من بوتين، صبت في مصلحة هؤلاء الأثرياء وشركاتهم، حيث حصلوا على دعم حكومي في مقابل الحظر الأميركي.
وكانت بريطانيا أعلنت رسمياً أن روسيا قد تكون وراء تسميم الجاسوس الروسي المزدوج السابق سيرغي سكريبال، وطلبت من موسكو تقديم تفسير لذلك، فيما اعتبرت موسكو أن الاتهامات البريطانية "حملة سياسية استفزازية".
يذكر أن السلطات البريطانية استدعت السفير الروسي للاستفسار، وقالت تيريزا ماي إن تسميم الجاسوس الروسي وابنته جرى بمادة تستخدم عسكريا صُنعت في روسيا، مشيرة إلى أن "من المرجح بقوة" أن تكون روسيا وراء الاعتداء.